ثمة نقاش عالمي حول موضوع توطين المهن من منظور الفلسفة الخلقية، فالمهن في نظر البعض بمثابة الفرص التي تتاح لأي أحد أن ينالها دون اعتبار لأولوية وتمكين المواطن في تلك البيئة، وهناك من يرى أن شغل المهن تكون الأولوية فيه للمواطن في أي بيئة كانت، وأن ذلك لا يتعارض مع الأخلاقيات أو فيه شائبة عنصرية. وعندما نتأمل في التراث الإسلامي خاصة في الفكر الاقتصادي لعمر بن الخطاب نجد استحضاره لمثل هذه المشكلة، وإرشاده إلى أهمية توطين المهن وعدم تخلي أفراد المجتمع عن المهن الرئيسة؛ بما يخلق مستقبلاً في تلك البيئة جملة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ويجعلها حبيسة التبعية الاقتصادية للآخرين، ويضعف جانب القدرة على التطور الذاتي المستقل لها. روى أبي عدي قال: كنا جلوساً في المسجد، فقام عمر بن الخطاب، فقلنا: أين تنطلق يا أمير المؤمنين؟ قال: انطلق إلى السوق، أنظر فيه، فأخذ درته فانطلق، وقعدنا ننتظره، فلما رجع قلنا: كيف رأيت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت العبيد والموالي جل أهلها، ما بها من العرب إلا قليلًا -وكأنه ساءه ذلك- فقلنا: يا أمير المؤمنين قد أغنانا الله عنها بالفيء، ونكره أن نركب الدناءة، وتكفينا موالينا وغلمانا، قال: والله لئن تركتموهم وإياها ليحتاجن رجالكم إلى رجالهم، ونساؤكم إلى نسائهم. وقد تحقق ظن عمر بن الخطاب ونظرته المستقبلية للمشكلة الاقتصادية والاجتماعية التي ستقع بسبب ترك توطين المهن في وقته، فقد انقطع العطاء السنوي الذي كان يأتي للناس، ونشأ جيل من أبنائهم ليس لديهم المهارة ولا القدرة على العمل؛ لكون آبائهم لم يزاولوا تلك المهن فيتعلموها منهم، مما أدى إلى خروج العرب إلى البادية وتغير التركيبة السكانية، ووقوع الصراع بين أهل المدينة وأهل البادية. ولهذا عد بعض العلماء تعلم الصناعات والمهن كالفلاحة والحياكة والسياسة بل الحجامة والخياطة من فروض الكفايات، وهذا كله مما يصب في جانب أن توطين المهن لا يتعارض مع الأخلاقيات الإسلامية. واليوم في وطننا المبارك تقوم رؤية 2030 على توطين المهن وتمكين المواطن من فرص العمل بأنواعها، بما هو متفق مع المنظور الشرعي والأخلاقي كما أسلفنا بيانه.
مشاركة :