«سافرولا» لونستون تشرشل: يوم فشل ثعلب السياسة في تجربته الروائية

  • 3/17/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في أواسط سنوات الخمسين، وفي الوقت نفسه الذي كان العالم كله غارقاً في سياسة «الحرب الباردة» التي كان ونستون تشرشل أطلق العنان لها قبل عشر سنوات بإعلانه في خطاب أميركي ان ثمة «ستاراً حديداً انغلق على اوروبا الشرقية»، رأى محكمو جائزة نوبل الأدبية ان من المناسب و «المنطقي» منح جائزتهم الى السياسي البريطاني اللامع، تحديداً عن كتاب في ستة مجلدات كان أصدره بين 1948 أو 1953 بعنوان «مذكرات حول الحرب العالمية الثانية». طبعاً لم يكن الكتاب أدبياً، ومن هنا ضج بعض العالم المثقف باحتجاجات تساءلت عما دفع محكّمي نوبل الى اختيار كتاب في الحرب وذكرياتها لمنحه جائزته الأدبية. لكن اهل نوبل لم يتراجعوا، لتصبح تلك الجائزة واحدة من العجائب في تاريخ اشهر جائزة أدبية في العالم. لسنا ندري ما الذي كان عليه رد فعل صاحب العلاقة نفسه، هل أحسّ انه انتصر؟ هل علق ساخراً كعادته في مثل تلك المواقف؟ أم تراه قرر على ضوء ذلك الإنتصار، ان يبدأ وهو يتخطى الثمانين من عمره، مساراً أدبياً؟ لم يجب أحد عن هذه الأسئلة. ومع هذا ثمة من اقترض ان الداهية البريطاني العجوز قهقه في تلك اللحظة وقد تذكّر ما كان حدث له قبل ذلك بنصف قرن ونيّف، يوم أصدر رواية أدبية جوبهت بالسخرية من قبل النقاد الانكليز. لا شك في أن تشرشل العجوز تذكر هؤلاء في تلك اللحظة وأحس بأنه ثأر منهم. فها هو الكاتب الذي اعتبروه غير قادر على تحبير صفحة أدبية واحدة، والهاوي الذي كتب واحدة من أكثر روايات ذلك الحين سذاجة، ها هو، ومن دون ان يكتب رواية جديدة، او يحبّر صفحة أدبية واحدة، يفوز بالجائزة التي يحلم بها كل كاتب في العالم. «انها سخرية القدر!» قال تشرشل من دون ريب بعد ان انتهى من قهقهته ومجّ نفساً من سيجاره الشهير لينصرف الى شأن آخر وقد وضع كل ذلك جانباً. > لكن مؤرخي حياة ونستون تشرشل، لم يضعوا أي شيء جانباً. بل عادوا بالذاكرة تحديداً الى العام 1900. والى رواية في نحو 250 صفحة صدرت بعنوان «سافرولا» حاملة توقيع ذلك الشاب الذي كانه من سيصبح لاحقاً أشهر رئيس حكومة في تاريخ بريطانيا، وأحد كبار ثعالب السياسة في تاريخ القرن العشرين. في ذلك الحين كان ونستون في الرابعة والعشرين من عمره. وكان عُرف قبل ذلك بوصفه طالباً جامعياً سيئاً... على رغم تمتعه بالكثير من المواهب كما بقدر كبير من الذكاء. كان الفتى مغرماً بأمه، لكنه يمقت أباه اللورد مالبورو، الذي كان شديد القسوة عليه. وربما بتشجيع من أمه، ولرغبة منه في الابتعاد عن أبيه، كان ونستون الشاب قد بدأ يخوض حياة تجوال ومغامرات مدهشة، سيصفها لاحقاً وصفاً رائعاً بالتأكيد في كتاب صغير عنوانه «سنوات شبابي». غير انه في الفترة التي نتحدث عنها، لم يكن قد أضحى بعد، ذلك الكاتب الذي يعرف كيف يستقي من أحداث حياته موضوعاً لكتابته، ولا من الحرب العالمية الثانية موضوعاً لكتابة تاريخية ستثبت قوتها. في ذلك الحين كان ونستون شاباً تطوع باكراً في سلاح الفرسان في الجيش البريطاني في الهند، وعُرف كلاعب بولو ماهر في البنغال، وكمستكشف مغامر لجبال أفغانستان العصية. ناهيك عن خوضه حرب البوير التي اندلعت في جنوب أفريقيا بين الجيش الانكليزي والمستوطنين ذوي الأصول الهولندية. وإذ بدا لصاحبنا الشاب ان كل هذه المغامرات والمآثر لا تكفيه، انصرف الى الكتابة، ولا سيما الكتابة الصحافية حيث راحت بعض الصحف البريطانية تستفيد من خدماته جاعلة إياه مراسلاً حربياً لها. وهكذا صارت الكتابة فضيلة أخرى تضاف الى فضائل ذلك الشاب الارستقراطي الذي سيتبين لاحقاً انه انما أراد طوال حياته ان يثبت لأبيه انه يفوقه موهبة وأهمية. > صحيح ان كل ما قام به ونستون حتى ذلك الحين بدا كافياً لحياة او حياتين. غير ان طموحه كان يتجاوز هذا. وكان يبدو عليه انه لم يشف غليله بعد من موقف أبيه تجاهه. ومن هنا، وفي وقت كانت مقالاته بدأت تجد لها صدى واسعاً لدى القراء الانكليز، وجد أن في إمكانه الآن ان ينصرف الى النوع الأدبي الذي كان معروفاً ان ابناء جلدته الانكليز يتقنونه أكثر من اتقانهم أي فن آخر: الرواية. وهكذا كتب روايته الأولى – والأخيرة لحسن الحظ! – والتي كان يعوّل عليها كثيراً كما يبدو. لكن ردود الفعل التي جابهتها اثبطت عزيمته فلم يكرر التجربة، ولكنه أبقى في وجدانه تلك الضغينة على نقاد الأدب، الضغينة التي لا شك عاد وفرّج عنها بعد ذلك بنصف قرن ونيّف. > ما هو موضوع هذه الرواية؟ في الحقيقة ان المرء لو قرأ «سافرولا» من دون ان يعرف من هو كاتبها، لن يخطر في باله ولو لثانية ان هذا الكاتب يمكن ان يكون ونستون تشرشل. فهي، وقبل أي وصف آخر لها، رواية ساذجة، ربما تنفع لتتحوّل الى فيلم هندي من النوع الأكثر تبسيطية. ناهيك بأن «الموقف السياسي» في الرواية، لا يشي أبداً بأن الكاتب هو ذلك السياسي المحافظ الداهية الذي سيكونه تشرشل. ففي هذا الإطار تكاد تكون «سافرولا» رواية «تقدمية» «ثورية»، من دون ان تردف هاتين الصفتين الجيدتين كتابة تليق بهما، أو رسم للشخصيات يبرر أفعالها ومواقفها. والشخصيات الأساسية في الرواية ثلاث: أولها بطل من أبطال حرية الشعوب يخوض معركة ثورية في بلد غير محدد، ضد طاغية يحكم هذا البلد... وبالتالي فإن الطاغية هو ثاني الشخصيات. أما الشخصية الثالثة فصبية حسناء يقع الإثنان في حبها. وبهذا تتحول الثورة كما الصراع السياسي بين البطل والطاغية، الى تنافس يخوضانه حول الفتاة في ما بينهما. وهذا التنافس يشكل بالطبع موضوع الرواية. ولعل الأكثر طرافة في الأمر هو وصف الكاتب للشخصيات. فالحاكم الطاغية يمكن المرء ان يتصوره، على الشكل الذي سيصبح عليه تشرشل نفسه لاحقاً. أما الشاب المناضل والثائر في سبيل الديموقراطية فيتسم بسذاجة وصفات تكاد تجعل منه بطلاً من ابطال الأفلام الغنائية الميلودرامية التي ستسود في اربعينات القرن العشرين وخمسيناته. وأما الفتاة موضوع الصراع والتنافس، فمغناج تمضي وقتها في التزيّن والتبرج غير منتبهة في معظم الأحيان الى ان حبيبها يخوض ثورة شعواء ضد ذلك الحاكم القاسي الذي قرر ان تكون له من دون غيره وان يحرمها من حبيبها... ربما عقاباً له على ثورته ضده. فهذا غير واضح على الإطلاق في الرواية، بالنظر الى ان احداثها تتوالى من دون رابط بينها والشخصيات تتصرف من دون ان يكون ثمة اي مبرر منطقي لأي تصرف من تصرفاتها. وبالطبع لن نقول هنا كيف ستنتهي تلك الأحداث: ربما لأنه يمكن توقعها من دون الوصول الى آخر الكتاب. وربما لأن الفصول الاولى من الكتاب تبدو مضجرة الى درجة يحتاج المرء معها الى ان يكون صبوراً صبر سياسي داهية من طينة ونستون تشرشل حتى يتحمل القراءة الى النهاية. وربما لأن القارئ ذات لحظة يفقد اهتماماً بالرواية وبما يدور فيها، ويقرر ان يتابع القراءة من دون انتباه لما يحدث... فقط على سبيل الفضول متسائلاً كيف أمكن حقاً لمثل ذلك القلم ومثل تلك الكتابة ان ينتجا ذلك السياسي العظيم الذي سيكونه تشرشل، وان ينتجا ذلك الأديب الذي برز حقاً في مجال كتابة المذكرات، تماماً كما برز في الرسم الذي اتقنه انما من دون ان يكون رساماً بمعنى الكلمة؟ > مهما يكن، من المؤكد ان الموقف النقدي من هذه الرواية التي يمكن النظر اليها كظاهرة مثيرة للفضول، أكثر مما هي كقطعة أدبية جديرة بتوقيع ونستون تشرشل (1874-1965)، لا يخفف من قيمة هذا الأخير الذي، من دون ان يكون رساماً كبيراً كما كان يحلم ان يكون، او روائياً كبيراً، كان واحداً من كبار سياسيي ومفكري القرن العشرين... كما كان واحداً من كبار الساخرين فيه.

مشاركة :