من الغفلة، بل العبث، أن ننكر أن إسرائيل لا تدير شؤونها يوما بيوم، وفق أهداف صغيرة عابرة، ولا بناء على خطة تستغرق بضع سنوات، إنما تنبع سياساتها التفصيلية السريعة، وخططها المتأنية من إستراتيجية بناها مؤسسوها، والتزم بها من تعاقبوا على حكمها. ويقوم جزء أصيل من هذه الإستراتيجية على إشعار الخصوم بالضعة، وقلة الحيلة، عبر إظهار الإسرائيلي على أنه دائما شخص حاد الذكاء، قوي الإرادة، ثم إظهار المؤسسة التي تقيمها إسرائيل بأنها غاية في الكفاءة، حيث التنظيم المحكم، والإخلاص الشديد، والقدرة الهائلة على الإنجاز. وانسحب هذا بالطبع على تصويرها الجندي الإسرائيلي بأنه لا يقهر، وجيشها لا يهزم، وحروبه نزهة، وتدور رحاها على أرض العرب، وليس داخل إسرائيل. كما امتدت الصورة إلى جهاز استخباراتها «الموساد» فهو الأمهر من حيث تجنيد العملاء، وجمع المعلومات، وبناء التصورات، ورسم الخطط. وعوّلت إسرائيل على هذه الصورة في تسويق نفسها لمحيطها العربي، سواء أيام الحروب لفرض هيبة وردع، أو بعد إطلاق مسار سلام لجلب منفعة، عبر تعاون اقتصادي تارة، أو تحقيق أهداف تارة أخرى. ولا ننسى في هذا المقام ما كان يردده شيمون بيريز رئيس الوزراء الراحل حول تعاون إقليمي تكون إسرائيل عقله، ودرعه وسيفه إن اقتضى الأمر. صورت إسرائيل نفسها لمحيطها العربي على أنها وحش كاسر، لا يمكن مواجهته، في الوقت الذي كانت ترسم لنفسها صورة مختلفة في الغرب، على أنها حمل وديع وسط «قطعان من الذئاب الجائعة»، معولة على الصورة النمطية للعربي في ذهن الغرب، والتي لا تعدو أن تكون إنشاء محرفا ومزيفا لإحن القرون الوسطى حسبما ذهب إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق«. ورغم أن بعض الباحثين والمفكرين العرب قد انتبهوا إلى لعبة المبالغة في القدرات لتركيع الخصوم، مثلما فعل عبد الوهاب المسيري، فإن الأغلبية من العرب ظلوا على حالهم القديمة، مستسلمين للدعايات الإسرائيلية في الغالب الأعم، بل كان من بينهم من يغذي هذا الشعور، سواء عن قصد، أو عن جهالة، أو لامبالاة، وأحيانا للتنصل من تبعات المواجهة. وحتى الذين وضعوا أيديهم على هذه المبالغات المفرطة، وأدركوا أن الجزء الأساسي من قوة إسرائيل يعود إلى المدد الغربي لها، فإنهم لم يتمكنوا، لأسباب عديدة، من نشر تصورهم هذا على نطاق واسع، ليصبح بمُكْنته أن يزيح رواسب الجزع الذي كرسته آلة الدعاية الإسرائيلية الممنهجة النافذة والتي يساعدها الإعلام الغربي. وعبثا حاول مؤرخون، ومنهم المؤرخ المصري قاسم عبده قاسم، أن يلفتوا الانتباه، ويعيدوا إلى الأذهان ما كان يقوم به الفرنجة في القرون الوسطى من التزام حيال الإمارات «الصليبية» التي كوّنوها في المكان نفسه التي قامت فيه إسرائيل، مثل الرها وأنطاكية وعكا وبيت المقدس، وعاش بعضها ما يزيد على قرن من الزمن ثم ذاب في محيطه الإقليمي فيما بعد. وحدهم الفلسطينيون، ورغم الصدمة المروعة التي حدثت لهم أيام القتل والتهجير وبعده، راحوا يرون الأمر على حقيقته، دون مبالغة، وهي مسألة وفرها لهم الاقتراب الدائم والاحتكاك اليومي بالإسرائيليين، والذي أمدهم بعدة مزايا في وقت واحد هي: اعتياد التعامل مع الإيذاء ثم التحايل عليه أو مواجهته، واكتشاف نقاط الضعف في المجتمع الإسرائيلي، والمعرفة العميقة بشخصية الصهيوني، وباعتبار أن إسرائيل أعلنت نفسها دولة لليهود فقط. اكتسب الفلسطينيون مناعة بمرور الوقت، مثلما يحدث في الجوانب البيولوجية للكائنات الحية، وصاروا أكثر قدرة على الاعتماد على الذات في الدفاع عن أنفسهم، بعد أن ظلوا زمنا طويلا يعتمدون على مساندة العرب عسكريا لقضيتهم. هذا الاعتماد بني على إدراك أن لافتة «الصراع العربي –الإسرائيلي» قد سقطت أو على الأقل ترنحت، وأن الصراع تحول، بحكم ما مر به من منعطفات على مدار 75 عاما، إلى صراع فلسطيني -إسرائيلي، وأن العرب حتى لو مدوا يد العون المالي والدبلوماسي والإعلامي فإنهم لن يربضوا في الخنادق ويحملوا البنادق، مع الفلسطينيين. في إطار هذا الفهم تم تطوير فكرة المقاومة، من مجرد الاكتفاء بصد هنا أو رد هناك، عبر عمليات فلسطينية متفرقة ضد إسرائيليين، مثل تلك العمليات الاستشهادية التي كان يقوم بها عناصر من حماس أو الجهاد الإسلامي، وكان الغرب يصفها بالإرهاب، وهو الوصف نفسه الذي لحق بعمليات قامت بها فتح أو حركات يسارية أخرى في زمن سابق. وجرّب الفلسطينيون انتفاضة الحجارة، التي اندلعت في ديسمبر 1987 واستمرت 6 أعوام، وحققت دعايات مذهلة للفلسطينيين، والأهم أنها أكسبتهم ثقة في أنفسهم وقدرة على تحويل العفوي إلى جهد منظم. أما الأكثر أهمية فهو انكشاف نفسية الجندي الإسرائيلي أمام الفلسطيني، إذ كان بعض الجنود يهربون أمام أطفال يقذفونهم بالحجارة، وصار المقلاع الفلسطيني يقف في وجه الدبابة، ليس بالطبع في تكافؤ الإيذاء إنما في تحقيق الرهبة. وحين عاد الفلسطينيون إلى حمل السلاح كانت قدرتهم محدودة، لا تتعدى البندقية وصواريخ محدودة المدى، ضعيفة القوة التدميرية، قليلة الدقة، لكنهم تمكنوا رويدا رويدا من تطوير هذه القدرة، إلى أن صارت لديهم صواريخ قادرة على تغطية كل جغرافيا إسرائيل بالنيران، ونرى نوعياتها وإمكانياتها تتطور من مواجهة إلى أخرى. حيازة قوة متصاعدة أعطت الفلسطينيين منعة وصلابة نفسية، جعلتهم يتحدثون مع الإسرائيليين حديث الأنداد في ميادين القتال، وليس على طاولة التفاوض، التي طالما تمكنت إسرائيل من دفع أوراقه لتتساقط من يد المفاوض الفلسطيني. وعلى درب الأنداد في ميادين القتال تأتي عملية «طوفان الأقصى» لتمحو بقايا أي رواسب للخوف الذي صنعته الدعايات الإسرائيلية ذات المبالغات والتهويلات، وهذا أثر له ما بعده في قابل الأعوام. { باحث مصري في العلوم السياسية
مشاركة :