على الرغم من أن القلق يحوم دائماً حول مستويات الديون الحكومية في البلدان الناشئة وتلك التي توصف عادة بالأشد فقراً، إلا أنه بات منذ فترة ليست قصيرة، ينسحب حتى على ديون الدول المتقدمة التي وإن كانت قادرة على السداد (بالطبع)، إلا أنها ترزح تحت ضغوط متعاظمة على صعيد موازناتها العامة، وهذه النقطة تمثل في الواقع الموضوع الدائم في نقاشات الآفاق الاقتصادية والمالية، خصوصاً في أعقاب الارتفاع المستمر لهذه الديون، مع زيادات متواصلة لأعباء خدمتها. وترتبط هذه الأعباء مباشرة في الرفع المتواصل أيضاً لمعدلات الفائدة في كل البلدان تقريباً، في إطار مواجهة الموجة التضخمية الهائلة التي ضربت (ولا تزال) الاقتصاد العالمي ككل. الذي زاد من القلق حول ديون الأسواق المتقدمة، أنها ارتفعت بمعدلات كبيرة في العامين الماضيين، بعد أن اضطرت الحكومات للجوء إلى أسواق الدين، من أجل تمويل حزم الدعم الهائلة التي قدمتها في أعقاب جائحة «كورونا». بعض هذه الحزم كانت في الواقع أموالاً يعرف المشرعون الماليون أنها لن تعود إلى وزارات المالية. ومع استفحال ارتفاع التضخم في الفترة نفسها تقريباً، رفعت الحكومات من وتيرة هذه الحزم التي تعد في بعض الدول «إنقاذية». فلا غرابة، من أن أكثر من 80% من ارتفاع الدين العالمي 10 تريليونات دولار في النصف الأول من العام الجاري، إلى مستوى قياسي وصل إلى 307 تريليونات دولار، جاء من الاقتصادات المتقدمة، وذلك وفقاً لمعهد التمويل الدولي. العوامل كثيرة في زيادة ديون الدول المتقدمة، لا تقتصر فقط على تبعات جائحة «كورونا»، والموجة التضخمية، بل تشمل أيضاً تكاليف حقيقية على صعيد التغير المناخي، وبالطبع الإنفاق على الخدمات الصحية التي تستنزف موارد الخزينة العامة عموماً، مع معاشات التقاعد وشيخوخة السكان في هذه الدول. فيما يرى البعض أنه يمكن إضافة المخاوف من حدوث أزمة في الأسواق المالية إلى المشهد الكلي الراهن. لماذا؟ لأن الديون القياسية عادة ما تولد أزمات، حتى لو كانت في اقتصادات متقدمة. ولابد من الإشارة هنا، إلى أنه لا توجد بالطبع مخاوف من جهة العجز عن السداد، لكن ضغوط الدين تفتح مسارات لأزمات متفرقة هنا وهناك. ففي بريطانيا (مثلاً) بلغ حجم الدين العام أكثر من 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي الولايات المتحدة وصل إلى 120% منه، والأمر يتشابه في وضعيته على ساحة الدول الأوروبية، باستثناء ألمانيا التي سجلت ديوناً بلغت 60% من الناتج المحلي. والمعضلة الكبيرة هنا، تنحصر في ضرورة تحقيق نمو كاف لتخفيف القلق الناجم عن «ديون الأثرياء» لإبقاء الموارد المالية تحت السيطرة، غير أن هذا النمو ليس مضموناً وسط سياسات الباب المفتوح لدى البنوك المركزية لإمكانية رفع الفائدة في الفترة المقبلة، على الرغم من تراجع ملحوظ لمعدلات التضخم. فلا يمكن إزالة مصاعب الديون دون نمو اقتصادي، بصرف النظر عن مستواه.
مشاركة :