هجرة المثقف السوري من الوطن ... إلى الوطن؟

  • 3/19/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

النازحون عن أوطانهم هرباً من هول نكباتها، هاجروا، وهاجر معهم وطن عصي على الهجران، حملوه في قلوبهم كما كان، لا كما آل إليه من أطلال وركام أمام أعينهم، أطلال لا وقوف عليها - كما أطلال الجاهلية - بل البكاء المر من هول الكارثة على المكان وقد تحول إلى أثرٍ بعد عين، شاهداً على فلسفة القوة العاتية وهي تجتاح فلا تبقي ولا تذر...! كانت الطبيعة تفرض الهجرة إذا جفَّ الماء، وقلَّ الكلأ، واليوم يفرضها القتل، والقتل المضاد، والتشريد، والدمار، مع جفّ الماء، وندرة الكلأ، وانقطاع التيار الكهربائي، والغازات، والسوائل والمــحـــروقات، وكـــل أســبـــاب الحياة...! إنها طبيعة صنعتها طبائع دخيلة على الطبائع البشرية، لن تمحو الأيام مرارتها، ويستحيل أن ترخي عليها سدولها نعمةُ النسيان. مثقفو الداخل السوري كثيراً ما يلجأون إلى التقيَّة في قراءة حركية الأحداث، وقلما يفصحون عما في دواخلهم، وإن أفصحوا فبلغة رمزية قابلة لأكثر من احتمال، وفي المآل نجدهم غرباء عن واقعهم في وطنهم، وغرباء حتى في مستقبله الغامض القاتم، وهم لا يشغلون أنفسهم حتى بالسؤال عن آيديولوجية هذا الحزب أو ذاك، من الأحزاب القديمة أو الجديدة، الموالية منها، أو المعارضة، سواء المنخرطة في الجبهة الوطنية التقدمية، أم في هيئة التنسيق الوطنية المعارضة، أم تلك التي لم تنخرط، وبقيت تمارس النضال منفردة، وكل الأحزاب الجديدة تقدم نفسها معارضة في كل وسائل الإعلام السورية، الحكومية والخاصة! لكنها تتواضع في معارضتها فلا تطرح إسقاط النظام، ولاتغييره! فهي لاتؤمن بذلك، وتكتفي بالحديث المستفيض عن الديموقراطية الموعودة، وتؤكد اختلافها كلياً مع أحزاب الجبهة الحاكمة، وأحزاب المجلس الوطني والائتلاف المعارضة، وتختلف جزئياً مع أحزاب هيئة التنسيق الوطنية، وجماعة القاهرة، وجماعة موسكو أيضاً، ولعل أكثر من عشرين حزباً جديداً ولد خلال الأزمة معظمها انشق عن أحزاب قديمة، لا تزال موجودة على رغم انشقاقاتها الكثيرة، وكل منشق يرى نفسه أجدر وأقوى من تنظيمه الأساسي، لاسيما إذا استطاع تحقيق دعم أمني داخلي أو خارجي (سياسي طبعاً) يسانده في نضاله، والجهات المختصة بالدعم السياسي في الداخل والخارج، تفتح صدرها للجميع بلا استثناء، باعتبارهم يناضلون من أجل الوطن أولاً وأخيراً...! الموجة الحزبية الجديدة في سورية (حضارية جداً) فكل حزب أمينه العام رجل، ونائبه امرأة، أو العكس، وهذه خطوة موفقة، باتجاه المساواة بين الرجل والمرأة، ديموقراطياً، إذ يتكامل الجنسان في حمل المسؤولية السياسية (وهي أعلى مراحل التكامل)، وبالتالي يسهل تساويهما في الحقوق والواجبات ضمن المجتمع المدني بكل فئاته، وطبقاته وألوانه، فتنصب جهودهما في النضال لتحقيق أهدافهم الحزبية السياسية.! لذلك نجد مثقفي الداخل ينامون ملء جفونهم عن شوارد الأحزاب السياسية في الداخل والخارج، فهم مطمئنون إلى أن نضال هذه الأحزاب لاتشوبه شائبة، الموالي منها والمعارض، والوسطي واللامنتمي، ولم يبق للمثقف من دور في الأزمة سوى أن يتأمل ويترقب، ولم تشغل باله فكرياً ولا سياسياً إلا منتديات الحوار (حوار الأديان، حوار الحضارات، حوار المصالحات الوطنية والعشائرية... وغيرها) خوفاً عليها من الانزلاق. لكنها فعلياً ضبطت نفسها، واقتصرت على الخطب العصماء، وهي دائماً تسير على الصراط المستقيم لا تشغلها توافه الأمور من بحث واستقصاء، كما في مؤسسات الحوار ومنتدياته، ومراكز البحث العلمي والدراسات، داخل الوطن العربي وخارجه، باعتبارها تحاول البحث والاستقصاء، ومجرد المحاولة (نجحت أو فشلت) هذا أمر مريب...! لا يبدد خطره إلا طابع الاستثمار السياسي الذي يحميها من الفلتان، وما هو مطمئن أنه لم يظهر في مخرجات منتدياتها ومؤتمراتها ما يمكن البناء عليه لتعكير صفو الحياة، كمنهج علمي - على سبيل المثال - قادر على لخبطة الأرضية الثقافية السائدة داخلياً وعربياً! ومن غرائب الأمور أن المثقف في الداخل السوري غير محصّن نفسياً من الأمراض الفكرية الفتّاكة التي لا تزال تترصده، كثقافات القرن العشرين التنويرية، ولم يقتنع بنصائح أشباه المثقفين الذين حموا أنفسهم من الوقوع في شركها بالتمترس وراء التراكمات المكدسة من الهوامش والاجتهادات، والتفاسير، وتفاسير التفاسير، وتجنبوا أن يعكر صفو عقولهم أي نص أصلي في زمن ظهوره، فتكون الكارثة أكبر من (ثقافة التنوير)! المثقف في الداخل السوري تحيط به الهواجس من كل حدب وصوب، سواءٌ عارض أو والى، بل ليس بمقدوره أن يعارض ولا أن يوالي، ويخشى على نفسه حتى من الحياد (لأنه حتماً حياد لا إيجابي)، وأينما وضع قدمه لا يجد أمناً ولا اطمئناناً، فأمامه أكثر من خمسين حزباً في الداخل والخارج، وأكثر من مئة فصيل معارض مقاتل، وطالما أن الأحزاب السياسية كلها تتشابه وتتداخل، وتتقارب، أهدافها كما الفصائل الثائرة الموقِّعَة على اتفاقية الهدنة وعددها 97 فصيلاً مقاتلاً، فمن المنطقي أن الانتساب إلى أي حزب كأنه انتساب إلى هذه الأحزاب كلها، وهكذا الفصائل المقاتلة المعارضة، ولكن الواقع غير ذلك، فكل حزب إن لم تكن عضواً فيه فأنت عدوه، والمشكلة إذاً أن ترضي حزباً واحداً وتعادي الآخرين، وكلهم أحزاب وطنية مناضلة حتى العظم، وإذا كان كل حزب يحجب نعيمه عمن ليس عضواً فيه، فهذا أخف وطأة من الفصائل المقاتلة المتطرفة، إذ يحكم كل فصيل بالإعدام على من ليس عضواً فيه، لذلك يحمي المثقف نفسه من غضب الأحزاب بأنه لامنتمٍ، ولا يخفى عليه أن هذا اللاانتماء جريمة كبرى لدى الفصائل المقاتلة، وجريمة لدى الموالاة المواجهة لتلك الفصائل عسكرياً وسياسياً، بل ثقافياً، فماذا يفعل؟ وأين يضع قدمه؟ أليست معضلة حقيقية مسألة الاختيار؟ المثقفون في الداخل السوري يسيرون بين حقول الألغام بحذرٍ شديد، على رغم سريان مفعول الهدنة، بعضهم قطع صلته بالنظام والمعارضة معاً، وانتبذ لنفسه مكاناً قصياً بخطه /اللامنتمي/، وفوجئ بأنه مازال - سياسياً - في مرمى قذائف الطرفين، بل الأطراف المتقاتلة كلها، حتى بعد وقف إطلاق النار عسكرياً (لا سياسياً)، لذلك قد نُفاجأ بأن هؤلاء ربما أعادوا قــراءة الواقع وما يمكن أن تؤول إليه الأمور، للعودة إلى الثقافة لائمين، حانقين، إنما بتصميم أشد وأعتى على خوض معركة التغيير فيها. وعلى رغم كل الظواهر المثبطة للآمال، يجزم المثقف التنويري (السوري بخاصة) بوجود توجه عالمي حقيقي، واندفاع حائر تائه، باتجاه تقويم الاعوجاج في متن الأرضية الثقافية العربية الفاعلة في صنع الإنسان محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، ويعتبر أن تلك هي المعركة الكبرى ضد الظلامية، والشمولية، إنما بسلاحٍ تنويري معدَّلٍ جديد، يُفترض أن ترسم ملامحه جهات بحثية منتقاة بدقة متناهية، علّها تتلمس الطريق لنقل المجتمعات العربية إلى مجتمعاتِ حقوق الإنسان.     * كاتب وإعلامي سوري

مشاركة :