ما أجمل أن تختلي بنفسك بعد عناء يوم طويل، ولعلك تحدق في المروحة أو سقف الغرفة حين تمدد قدميك المتعبتين باحثًا عن حلم يقظة ينتشلك من واقعك المرير، والتعب الذي أرهق قلبك قبل جسدك. شئت أم أبيت سينتابك يومًا ما ذلك الشعورُ المريع بالملل والسأم، ستلجأ إلى التخلص من ذلك الحمل الثقيل الذي جثم على صدرك كصقر ينقض على فريسته؛ ليسلبها آخر رمق من الحياة. لقد فقدَت الحياة الكثير من معانيها على الرغم من أن «البحث عن معنى للحياة» هو أحد أسمَى الأهداف التي سعى الإنسان وراء تحقيقها منذ فجر الخليقة، فتحول الإنسان المعاصر إلى آلة تسير بلا هوادة في طريق مظلم معبّد بالروتين، وأضحَت الرتابة تخنقنا أكثر من غاز ثاني أوكسيد الكربون. أجل، لم يفقد الملل مكانته في قلوب البشر، ولكن الفلاسفة اختلفوا في فهم هذا الشعور وتحليله. قال الفيلسوف الدنماركي سورين كيركاغارد إن «الملل جذر وأصل كل الشرور»، كما برز مصطلح «أسيدياacedia » قبل ذلك وفي العصور الأولى للديانة المسيحية كتعبير عن حالة الخواء والفتور الروحيّ الذي يقود صاحبه إلى التكاسل عن أداء الصلوات والتنسك وكأنّ «شيطانًا» قد تلبّس بجسده وسلب عقله. لا أجد أن النظر إلى الملل كخطيئة لا تغتفر أو ذنب من الذنوب الكاردينالية المميتة السَبع أمر صائب، فعقلكَ بحاجةٍ ماسّة إلى أخذ جرعات تقوّض من حدة الدوبامين؛ ليهدأ تارة وينهض من سباته تارة أخرى. التنوع في ممارسة الأنشطة الحياتية يدفع الإنسان إلى المزيد من الإنتاج والإبداع، فلا يضمر عقله أبدًا. خلقنا كبشر وفي أعماقنا جانب روحيّ يميزنا عن بقية الكائنات، وعلى الرغم من أن الكثير من الخطايا والرذائل قد ارتكبت بسبب حماقة أصحابها بحثًا عن «كسر الروتين» وخوفًا من الوقوع في قبضة الملل إلا أننا باستطاعتنا توظيف هذه المشاعر بشكل إيجابي نحو إذكاء مَلَكة الصَبر والتجلّد، فالصبر أمام كومة الفراغ هذه مهارة مهمة إن غابت فستحدث الكارثة، وستسود الجريمة وإن حاول البعض التقليل من حدتها وطمس ملامحها تحت عناوين الجنون أو المجون، فهذا لا يغير من حقيقة شناعة الجريمة شيئًا ولا يبرر لأصحابها ما اقترفوه. حين لا يجد الإنسان شيئًا نافعًا يقدمه ويفعله للبشرية، فسيفعل أي شيء وكل شيء! لإرضاء غروره الداخلي وخوائه المعرفي. كل تجربة في هذا الوجود مهمة وعميقة إن دفعتنا إلى التبصر عن حقيقة الوجود، والتحليق بعيدًا خارج رحم الجماعات والقطيع بحثًا عن السلوان والسكون.
مشاركة :