أشرت في مقال سابق إلى أني سأفرد مقالا حول كتاب «أمة على رسلها: تأملات من بلاد العرب» لمؤلفته الأميرة مها بنت محمد الفيصل، وأظن أنني سأفرد له مقالات مطولة، فعوضا عن عمق محتواه الفكري، وتجذر مضمونه الدلالي، والذي كشف لنا عن باحثة مفكرة جديرة بالاهتمام، وحقيقة بأن تتصدر المشهد بوصفها باحثة جادة، بمنأى عن مكانتها الأسرية، وبعيدا عن وظيفتها المركزية كأمين عام لمؤسسة بحثية هي من أكبر المؤسسات في الشرق الأوسط إجمالا، ويكفي أنها تصدر جائزة عالمية بات لها وجودها في الذهن العلمي العالمي، وأعني بها «جائزة الملك فيصل العالمية». بمنأى عن كل ذلك، فقد سلط الكتاب الضوء على كثير من أنساق الذهن الغربي، وسياقات مجتمعه الثقافي، والتي لا يزال جانبا كبيرا منها مستمرا حتى الوقت الراهن، أحدها ما نراه ماثلا أمامنا من طبيعة التعاطي القائم على اللامبالاة والرضا، من قبل كثير من الأنظمة الغربية والسياسيين والإعلاميين الغربيين، إزاء الجريمة البشعة التي ترتكبها حكومة الاحتلال الإسرائيلية بحق المدنيين من أطفال ونساء ورجال عزل، بحجة الدفاع عن النفس، وكل ذلك بمرأى ومسمع منهم ومن العالم، والأسوأ أن يكون بتأييد صريح منهم، ودعم جلي واضج تمثل في الزيارات الرسمية المتكررة للكيان الإسرائيلي، ووعدهم بتقديم كل ما يحتاجونه من عتاد، وكل ما يساعدهم على إكمال مجزرتهم من موقف سياسي وإعلامي، مع تأكيدهم لقادة الكيان الإسرائيلي بأنهم سيرفضون الاستماع لنداءات العالم بوقف أعمال الإرهاب، التي يتم ارتكابها علنا وأمام أنظار كل الكون. هل هناك جريمة بشعة يمكن أن يراها أحدنا كهذه في التاريخ؟، هل حدث في التاريخ أن تم ذبح الأطفال، وارتكاب المجازر، وتجويع المدنيين، وقطع الماء والكهرباء عنهم، وتفجير مستشفياتهم، وكل ذلك يحدث أمام مرأى ومسمع من كل العالم؟ حتما لا يوجد، إذ كل مآسي العالم قد تم حدوثها بعيدا عن الأضواء، ولم يعلم بها العالم إلا بعد ارتكابها بمدة، حتى حكاية المحرقة المزعومة والتي هوَّلها اليهود وأضافوا عليها من كذبهم الشيء الكبير، قد تمت - إن حدث ذلك - بمنأى عن أنظار العالم، كما أنها حدثت في أوروبا وليس في بلاد العرب الذين عاش اليهود بينهم بكرامة وعزة وأمان، ورغم ذلك إلا أن جزاءهم كان الذبح والقتل والتدمير وارتكاب أبشع الجرائم الإنسانية، بتأييد كامل من القوى الإمبريالية الغربية. كان ذلك مثار استغراب وعدم قدرة على الفهم بالنسبة لي، بل ولم أكن أفهم سبب التوحش الغربي في حروبهم الماضية، ابتداء من الحرب العالمية الثانية، ونزولا إلى عصور التاريخ السالفة، وكنت أتصور رغم انتمائي لحقل التاريخ، أن ذلك هو ديدن كل البشر، فالعنف سمة يشترك فيها جميع الناس، كما هو التسامح مثلا. على أني وحال قراءتي لفصل «ثقافة مرتبكة» في كتاب «أمة على رسلها» أدركت حقيقة الأمر، وفهمت أبعاد ما نراه من توحش غربي، والمتمثل في توحش القادة الإسرائيليين المنتمين للعرق والثقافة الغربية، وأقصد بهم عرق «الأشكناز» وهم اليهود الذين أسسوا مجتمعات على طول نهر الراين بألمانيا وشمال فرنسا في الألفية الميلادية الأولى، ثم مع تزايد الاضطهاد الغربي لهم عمدوا إلى الهجرة إلى شرق أوروبا، حيث الإمبراطورية الرومانية، واستمروا مقيمين في أراضيها ودولها حتى أتاحت بريطانيا لهم احتلال أرض فلسطين العربية، فعمدوا إلى ارتكاب المجازر منذ الوهلة الأولى، انطلاقا من نزعتهم المتوحشة التي عاشوا فيها. في هذا الفصل من الكتاب، أبانت الباحثة المفكرة الأميرة مها، جانبا من نسق الثقافة الغربية المتوحشة إزاء الآخر، حيث ووفقا لما كتبه القس فولتشر عن تاريخ الحروب الصليبية وكان شاهدا عليها، عمد الصليبيون إلى أكل جثث المسلمين مطبوخة ونيئة على حد سواء، مع الإشارة إلى أن ذلك لم يحدث من قبل ممالك الكنائس الشرقية التي وبتعدد الحروب بينهم وبين المسلمين إلا أنهم لم يعمدوا إلى أكل لحم بشر عربي أو رومي أيضا، بل وحتى المغول أنفسهم الذين ورغم استيلائهم بهمجية كثيرا من البقاع شرقا وغربا، فإنهم لم يقوموا بهذا السلوك المتوحش أبدا. لقد جاءت استشهادات الكاتبة حول هذا السياق في كتابها المهم، في سبيل مواجهة الذهن الغربي الإقصائي للعرب، ومحاولتهم تكريس صورة نمطية عنهم ليست صحيحة، أو على الأقل لم تقم بجزء من أعمالهم المتوحشة اللاإنسانية في التاريخ. وأرادت الكاتبة أن تذكرهم بماضيهم المخجل، الذي أرادوا نسيانه وتجاوزه في ظل حضارتهم الحديثة، غير أن ما نشهده اليوم من إصرار على ارتكاب ذات الجرائم المتوحشة، يجعلني ـ كقارئ ـ أتساءل: وهل تجاوز الغرب الأوروبي فعليا نسقهم الذهني وسياقهم الثقافي القائم على نفي وازدراء الآخر والتعامل معه بتوحش؟. مع تقديم كامل الاحترام لكل من تحرر منهم من النسق والسياق العنصري كليهما. zash113@
مشاركة :