أحد الموضوعات الرئيسة في السينما العالمية سواء في هوليود الأمريكية أو بوليوود الهندية أو السينما الصينية موضوع متكرر، لا يمل المخرجون من إخراجه والمنتجون من تمويله والممثلون من تمثيله والمشاهدون بالطبع من مشاهدته.. إنها قصة الفتى الذي يريد أن يشق طريقه إلى الأعلى رغم كل الصعوبات المحيطة به في حياته البائسة، لكنه يواجه حفنة من الأشرار الذين يتصدون له ويهزمونه ويجعلونه يخسر كل ما يملك. ولأن كرامته أهينت على مرأى ومسمع من الجميع ينسحب من الحياة مغادرا بلدته ليكد ويكدح في مكان آخر، ليعود يوما ما إلى عائلته ويلقن الأشرار درسا لا ينسى أو يصبح شديد الثراء وينتقم منهم جميعا، وبالطبع يفوز بحبيبته في نهاية المطاف. سيناريو متكرر لا يكل ولا يمل منه الجميع وغالبا ما يلقى النجاح. يبدو أن هذا السيناريو لن يكون حصرا على دور السينما العالمية، إذ يطل برأسه اليوم في عالم الاقتصاد وتحديدا في عالم العملات المشفرة. تعود العملات المشفرة مجددا وتدريجيا لتلقن الذين سخروا منها ووجهوا إليها الضربة تلو الأخرى درسا، فحواه أنها وجدت لتبقى وستواصل الصعود مهما تكالب عليها الخصوم. المستثمرون من جانبهم ينظرون إلى تلك العودة وقلوبهم تخفق بالسعادة، فقد تركوا لردح من الزمن فريسة في يد البنوك، واليوم تعود الثقة لديهم بأن العملات المشفرة يمكن أن تجعلهم أثرياء، فالخسائر المؤلمة التي تعرضوا لها في الفترة الماضية، لم تمنعهم من مواصلة "الحلم" أو أن يتخلوا عن قناعتهم بأن الاستثمار في العملات المشفرة خاصة البيتكوين سيظل وسيلتهم المثلى لتحقيق ثروة كبيرة. فالعملات المشفرة تعود إلى الساحة من جديد، كيف.. ولماذا.. وهل..؟ عشرات من الأسئلة تطرح نفسها بقوة حول تلك العودة وما يمكن أن ينجم عنها من تداعيات على سوق العملات المشفرة والاقتصاد العالمي في ظل حالة من عدم اليقين التي تسود المشهد الدولي بشقيه الاقتصادي والسياسي، لكن السؤال الأبرز: لماذا تعود العملات المشفرة وتكتسب ثقة المستثمرين؟ خلال فترة وباء كورونا تدفق المستثمرون على عالم بيتكوين والعملات المشفرة الأخرى نتيجة ارتفاع أسعارها، وفي العام الماضي تراجعوا عن المضي قدما في ذلك الاتجاه بسبب انهيار الأسعار والفضائح التي أحاطت بشركات عملاقة تتعامل في العملات المشفرة، وأدى انهيار العملات المشفرة في عام 2022 إلى تدمير ما يقرب من تريليون دولار من قيمتها السوقية، وبث ذلك الرعب في "جيوب" المستثمرين إلا القليل منهم الذين واصلوا استثمار أموالهم في العملات الرقمية. وفي استطلاع للرأي أجراه بنك الاحتياطي الفيدرالي في ولاية فيلادلفيا الأمريكية في أكتوبر من العام الماضي كشف 39 في المائة من المستثمرين في العملات الرقمية عن أنه "من المحتمل" أن يواصلوا شراء مزيد من تلك العملات. السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تتراجع العملات المشفرة وتخسر مئات المليارات من قيمتها، ويظن الخبراء أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة ثم تفاجئ الجميع وتنهض كالعنقاء من تحت الرماد لتحلق مرة أخرى في سماء عالم المال وتصبح حديث الملأ؟ من جهته، يقول لـ"الاقتصادية"، الدكتور ديفيد ماكينزى أستاذ علم مبادئ الاقتصاد في جامعة جلاسكو "لا يوجد أحد لديه تصور قاطع أو يقيني حول مستقبل العملات الرقمية المشفرة، لكن التجربة تشير إلى أن الاعتقاد بأنها ستتلاشى أو ستختفي ربما لا يكون صحيحا، والحماس سيظل قائما لدى كثير من المستثمرين تجاه هذا النوع من الاستثمار، لأن القناعة السائدة لديهم أن الطرق التقليدية للوصول إلى الثروة مغلقة أو ضيقة والمسار الداخلي فيها بطيء، فمسارات مثل الوظائف والراتب أو الأجر الذي يجنى منها لا يكفي لتراكم ثروات ذات معنى، والاستثمار طويل الأجل في الأسهم وشراء العقارات أقل مخاطرة من العملات المشفرة لكنها أيضا أقل ربحية". بعض الدراسات تعزز هذا المنطق من التفكير، فالاستثمار في العملات المشفرة بين الرجال أعلى منه بين النساء، وكذلك بين البالغين الذين تقل أعمارهم عن 50 عاما مقارنة بمن هم أكبر سنا، ويميل الأشخاص من أصحاب الدخل المنخفض إلى الدخول لسوق العملات المشفرة عندما تكون الأسعار في اتجاه صعودي، وإذا كانت التقلبات الحادة في أسعار العملات المشفرة تشكل خطرا للمستثمرين من ذوي الدخل المحدود، فإنها تفتح لهم آفاقا من الحرية المالية وإمكانية التغلب على ما يواجهونه من مشكلات مالية. لكن الدكتورة إيمليا أوثاث أستاذة علم الاقتصاد الاجتماعي في جامعة لندن ترى أن توسع الأسواق المالية في العقود الماضية، يجعل كثيرا من المستثمرين خاصة من الفئات ذات الدخل المنخفض يعتقدون أن بمقدورهم تحقيق الثروة من خلال المناورة بين فترات الازدهار والكساد الاقتصادي، بمعنى أنهم يركزون أكثر على فكرة تحقيق الثراء من خلال استغلال الفرصة وليس من خلال التراكم المالي. وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن "فكرة الثراء بضربة حظ واحدة كانت دائما جزءا من الفكر الاستثماري الشعبوي المنتشر بين الفئات الفقيرة أو أصحاب الدخل المحدود من الطبقة المتوسطة، والعملات المشفرة تنسجم تماما مع تلك الفكرة، وغالبا أصحاب هذا التفكير لديهم دائما قناعة بأنهم أضاعوا فرصا كبيرة في الماضي لتحقيق الثراء، وهذا تحديدا ما يوجد الآن إقبالا متزايدا على العملات المشفرة، فالأسعار لا تزال منخفضة، لكن من وجهة نظر البعض إنها في طريقها إلى الارتفاع، ومن يؤمن بذلك لا يريد إضاعة الفرصة التي يمكن اقتناصها مستقبلا". التفسير النفسي للإقبال الحالي على شراء العملات المشفرة لا ينفي من وجهة نظر البعض وجود عوامل موضوعية في الاقتصاد العالمي تدفع إلى انتعاش أسواق العملات الرقمية مجددا. فعملة بيتكوين كانت على وشك الوفاة بالسكتة الدماغية بعد الانهيار الداخلي لبورصة العملات المشفرة "إف تي إكس" لكن ارتفاعها الحالي يشير إلى خطأ الرافضين لهذا النوع من الاستثمارات، وربما يعود الارتفاع الحالي في الطلب على العملات المشفرة إلى حالة الاضطراب التي حدثت في النظام المصرفي هذا العام سواء في الولايات المتحدة أو سويسرا، فقي النصف الأول من هذا العام ارتفعت قيمة البيتكوين بنسبة 70 في المائة تقريبا، وحدث هذا الارتفاع رغم الإجراءات التنظيمية التي يتخذها الفيدرالي الأمريكي في مواجهة شركات العملات المشفرة، وبيئة عدم اليقين التي تسود الاقتصاد الدولي. بدورها تقول لـ"الاقتصادية"، كلارا كيتلين الخبيرة المالية "الاضطرابات المصرفية التي تهز الأسواق المالية العالمية من حين إلى آخر، هزت معها ثقة المستثمرين بالنظام المصرفي والمالي التقليدي ودفعتهم إلى البحث عن بديل مالي آخر، وهذا ما أنعش سوق العملات المشفرة". وتضيف "علينا أن نتذكر أن عملة بيتكوين كانت أول العملات المشفرة ظهورا، وجاءت كرد فعل على الأزمة المالية والبنكية في أواخر عام 2008، ولذلك يمكن القول إنه كلما حدثت هزت حقيقية في النظام المصرفي العالمي، زاد الإقبال على العملات المشفرة، ليس بوصفها ملاذا آمنا كالدولار والذهب، لكن بوصفها فرصة استثمارية واعدة، وذلك لوجود قناعة بأن عملة بيتكوين اخترعت لتحقيق الاستقلال عن المخاطر البنكية". لكن هذا المنطق الذي يربط بين الهزات التي تنتاب النظام المصرفي من حين إلى آخر، والإقبال على بيتكوين، ربما لا يكون في مصلحة العملات المشفرة إذا استقر النظام المصرفي وسادت قناعات لدى المستثمرين بأن أسواق المال العالمية في حالة من الثبات والرسوخ القوي، ما ينعكس سلبا على مدى الإقبال على العملات المشفرة ومن ثم يؤدي إلى انخفاض أسعارها. مع هذا لا يزال خصوم العملات المشفرة يطرحون حججا للعداء تبدو منطقية من وجهة نظر البعض، وجوهر تلك الحجج يقوم على أن العملات المشفرة وعلى الرغم من ارتفاع أسعارها وانتعاش أسواقها في الآونة الأخيرة فإن آفاقها لا تبدو مشرقة كما يروج أنصارها. فالقيود التنظيمية التي تفرضها البنوك المركزية المختلفة خاصة الفيدرالي الأمريكي تجعل من المشكوك فيه أن تفلح العملات المشفرة في كسر القيود المفروضة عليها. من جهته، يقول لـ"الاقتصادية"، إس. دي . جينسلر الخبير المصرفي "العملات المشفرة ستواصل العمل في دورات قائمة على الصعود لبعض الوقت ثم الانهيار، فالعملات المشفرة وعلى الرغم من كل الضجيج المحيط بها لا تزال سوقا صغيرة حيث تبلغ قيمتها السوقية العالمية نحو تريليون دولار، وهذه سوق صغيرة مقارنة بالأسواق الرئيسة والنظام المالي ككل، ولذلك عندما تنهار أسواق العملات المشفرة فإننا لا نجد لهذا الانهيار تأثيرا في الأسواق الأخرى، فالقطاع لا يشكل حتى الآن خطرا شاملا على الاقتصاد الدولي كسوق الذهب أو المعادن أو السلع الرئيسة أو الزراعية، والمتضرر من الانهيار غالبا أفراد من المستثمرين". لا شك أن عدم قيام أغلب البنوك بتمويل شراء العملات المشفرة، يحد من وصولها إلى المستهلكين ويضيق الأفق المتاح لها للتوسع، بل ويسهم بشكل أو آخر في عدم إنقاذ بورصات العملات الرقمية التي تواجه عثرات، ما يؤدي إلى انهيارها وفقدان المستثمرين الثقة بها، فبورصة إف تي إكس التي انهارت عام 2022 لم تكن السفينة الوحيدة التي غرقت في عالم العملات المشفرة، فمنذ ذلك الحين نما سريعا عديد من شركات العملات المشفرة وانهار أيضا سريعا عندما تخلف المقترضون عن سداد القروض، ما كشف الدور السلبي الذي تلعبه البنوك في تقييد عالم العملات المشفرة. في ضوء ارتفاع أسعار العملات المشفرة، مع بقاء القيود التنظيمية دون تغيير يصبح السؤال: ما الذي ينتظر هذه السوق مستقبلا؟ يجيب البروفيسور إم تامبي أستاذ النظم الاستثمارية سابقا في جامعة ليدز قائلا "تتعرض سوق العملات المشفرة العالمية لضغوط كبيرة بسبب القيود التنظيمية من جانب والرسوم المفروضة على بورصات العملات المشفرة والتضخم العالمي في الوقت ذاته، فتلك التوليفة توجد تقلبات حادة لا تصب في مصلحة المتداولين في مجال الأصول ذات المخاطر مثل العملات المشفرة، وما يجب تذكره دائما قبل الاستثمار في العملات المشفرة أنها سوق شديدة التقلب والاستثمار فيها لا يمكن أن يسير دائما كما هو مخطط له، فالسوق حاليا تتعافى لكن إلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا التعافي، يصعب الجزم بذلك".
مشاركة :