الدكتور طه جابر العلواني كما عرفته

  • 3/20/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

ترجع معرفتي المباشرة بالعلامة الدكتور طه جابر العلواني (1354-1437هـ/1935-2016م) إلى سنة 1993م، حين دعيت للمشاركة في ندوة: (التعددية الحزبية والطائفية والعرقية في العالم العربي)، التي نظمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي في مقره بمنطقة هرندن بولاية فرجينيا الأمريكية، بالتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت، فقد كان الدكتور طه مقيما آنذاك في أمريكا التي انتقل إليها سنة 1985م، متفرغا لعمل المعهد الذي شارك في تأسيسه سنة 1981م، وترأسه لمدة عشر سنوات ممتدة ما بين (1986-1996م). وبعد انتهاء أيام الندوة التي عقدت في أواخر شهر نوفمبر 1993م، طلبت اللقاء به فاجتمعنا في مكتبه وحدثني عن سيرة المعهد فكرته ومشروعه وأنشطته، وسجلت معه في هذا اللقاء حوارا فكريا موسعا حول المشروع الثقافي الإسلامي المعاصر، نشر في العدد الثاني من مجلة الكلمة شتاء 1994م، وكان أول حوار فكري ينشر في المجلة، وحصلت منه على الموافقة في أن نضيف اسمه إلى قائمة أسماء الهيئة الاستشارية لمجلة الكلمة، وأذن لنا في نشر بعض أوراق ندوة التعددية، وخرجت من هذا اللقاء بسرور كبير. وخلال فترة الزيارة هذه إلى أمريكا التي مددتها لأربعين يوما، التقيت بالدكتور طه للمرة الثالثة في اللقاء الشهري المفتوح الذي كان ينظمه المعهد في مقره، ويديره الدكتور طه، ويحضره جمع محدود من النخبة العربية المقيمين في ولاية فرجينيا وفي العاصمة واشنطن دي سي، ويناقش اللقاء قضايا وموضوعات فكرية جادة ومستجدة. وفي وقت آخر، تجدد اللقاء بالدكتور طه في العاصمة الأردنية عمان، حين كلفني المعهد العالمي للفكر الإسلامي بتولي إدارة دورة المنهجية الإسلامية الرابعة التي عقدها مكتب المعهد في الأردن لمدة أسبوع خلال شهر يوليو 1999م، وحضرها ثمانية وعشرون مشاركا من أساتذة الجامعات وطلبة الدراسات العليا من أقطار عربية وإسلامية عدة، وفي ذلك الوقت وصل الدكتور طه إلى عمان وقدم محاضرة مهمة في هذه الدورة، وكنت مديرا لجميع الجلسات، ومنها جلسة الدكتور طه، فقد عرفت به إلى الحاضرين، وشكرني لاحقا على التعريف الذي تضمن إشادة بشخصه ودوره الفكري. وفي سنة 2000م دعيت للمشاركة في اجتماع مستشاري المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذي عقد بولاية فرجينيا الأمريكية، فكنت على لقاء بالدكتور طه يوميا طيلة أيام الاجتماع التي امتدت إلى خمسة أيام. وحينما انتقل في الإقامة والسكن من أمريكا واستقر في القاهرة، كنت أزوره في شقته بحي الزمالك في كل المرات التي وصلت فيها إلى القاهرة، زرته في شهر مارس 2006م وكنت بصحبة الدكتور سيف الدين عبدالفتاح أستاذ النظرية السياسية بجامعة القاهرة، والدكتورة نادية مصطفى أستاذة العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، وزرته في نوفمبر 2008م، وكذلك في يونيو 2010م، وآخر زيارة ولقاء معه كان في شهر مايو 2014م. كما التقيت به كذلك في اسطنبول في ديسمبر 2006م، خلال مشاركتي في اللقاء الفكري الذي دعا إليه المعهد العالمي للفكر الإسلامي. وفي جميع هذه اللقاءات، كانت تجري بيني وبينه حوارات ومناقشات فكرية وثقافية مفيدة وثرية، تناولت قضايا حيوية ومستجدة في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر منها: قضية إسلامية المعرفة، وقضية التجديد الديني، ومسائل تتصل بالأمة الجامعة والتقريب بين المذاهب الإسلامية والمشكلة الطائفية إلى جانب قضايا أخرى. في سنة 2008م وصل الدكتور طه إلى الرياض، وهاتفني عبر الهاتف وطلب مقابلتي وخيرني بين الرياض والمنامة التي سوف يصل إليها لاحقا لزيارة ابنته الدكتورة رقية المقيمة في البحرين، وبحكم المسافة وقربها فضلت أن يكون اللقاء في المنامة، وعلى الموعد وصلت عنده في منزل ابنته الدكتورة رقية، في هذا اللقاء حدثني عن رغبته في تأسيس معهد علمي تعليمي يتخصص لمعالجة مشكلة الطائفية في ساحة المسلمين، وطلب مني التعاون وأن أكون معه في المعهد، ورحبت كثيرا بالفكرة، وبقينا على تواصل بهذا الشأن. وفي 30 يونيو 2011م تسلمت منه عبر البريد الإلكتروني تصورا مفصلا حول فكرة ومشروع المعهد، حمل عنوان: (معذرة إلى ربكم)، يقع في 37 صفحة، تكوّن من مقدمة، وتحديد الأهداف، وتصميم البرنامج ومدته سنتان، أطلق عليه «برنامج دراسات عليا في التخصص بمعالجة الأزمات والمشكلات الطائفية»، كما تضمن التصور الحديث عن المساقات والمقررات الدراسية المقترحة وأخيرا التخصصات. وحين نظرت في هذا التصور، وجدته يمثل وثيقة مهمة، ونصا معرفيا ومنهجيا جادا وناضجا يسهم في تكوين المعرفة بالمشكلة الطائفية على مستوى النظر، وطريقة التعامل معها على مستوى العمل. وعن رؤيته ومنطلقه في هذه الخطوة يرى الدكتور طه أنه «صار لزاما على المخلصين من أبناء الأمة وقادتها وقادة الرأي فيها، أن يردّوا الناس إلى الأمر الأول القائم على الوحدة والتضامن والتسامح وقبول الآخر والاعتراف بالتعدد، ودرأ الفتن، وإشاعة ثقافة الإخاء والتسامح وأدب الاختلاف». وقد بذلت جهود مختلفة في التقريب بين المذاهب والدعوة بين وحدة الأمّة، وأقيمت مؤسّسات وعقدت مؤتمرات لكننا لم نجد لكل تلك الجهود تأثيرا واقعيا، ولم نلمس أي تغيير أو تغير ثقافي لدى الأمة يشيع ثقافة قبول الرأي والرأي الآخر. إن من المعلوم أن أهم وسيلة ناجحة لبناء المعالم الثقافية، وتوصيل الرؤية إلى الأمة تعتمد على التعليم الهادف المنضبط، ومن هنا وجدنا أن علينا أن ننادي أصحاب الرأي وصناع القرار في أمتنا، لتحويل هذه الظواهر السلبية إلى دور العلم والمعرفة، لعلنا ننجح في إيجاد أبنية ثقافية ومعرفية تساعد أبناءنا وأحفادنا على امتصاص وتذويب أسباب النزاع والصراع والعنف، وتطهير المجتمعات المسلمة من عوامل الاحتقان لكن المشروع للأسف الشديد لم ير النور بسبب الوضع الصحي الذي أعاق الدكتور طه عن الحركة، وجعله نزيل سكنه في القاهرة. فمعرفتي بالدكتور طه منذ أن بدأت في أواخر سنة 1993م، بقيت واستمرت وتنامت وتطورت، وكنت على تواصل مستمر معه بالهاتف والبريد الإلكتروني، وعبر اللقاءات المباشرة التي تعددت أمكنتها ما بين فرجينيا وعمان والقاهرة والمنامة واسطنبول، وكانت بيني وبينه مودة كبيرة. إلى جانب ذلك، فقد تابعته فكريا وثقافيا على مستوى المؤلفات والكتابات والمقالات، فقد أعددته من الأشخاص القلة الذين بقيت أتابعهم فكريا وثقافيا، فهو إلى جانب كونه صاحب فضيلة علمية عالية، يعد كذلك صاحب رأي ويستقل برأيه بشجاعة ولا يرى نفسه إلا في هذا الموقف، كما أنه صاحب حس نقدي عميق، وتحركه نزعة الإصلاح والتجديد. والدكتور طه في هذا النهج كان واثقا من نفسه لكونه خبيرا ويمتلك أدوات المنهج، ويتقن آلياته، ويحسن صنعته، باعتباره عالما ومتخصصا في أصول الفقه وهو علم في المنهج، فقد حصل على شهادة الدكتوراة من جامعة الأزهر سنة 1973م متخصصا في علم أصول الفقه، وعمل محققا لكتاب فخر الدين الرازي (المحصول من علم أصول الفقه) لمدة أربع سنوات وأنجزه في ستة مجلدات وكان موضوعه لرسالة الدكتوراة، ونشر مؤلفات معروفة في هذا الحقل، وشغل منصب أستاذا لمادته مدة عشر سنوات في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض خلال الفترة الممتدة ما بين (1975-1985). لهذا يعد الدكتور طه واحدا من ألمع علماء المسلمين المعاصرين، ويصنف على الطبقة الأولى من المفكرين الإسلاميين في هذا العصر، فهو عالم ومفكر ومصلح تشهد له تحقيقاته ودراساته ومحاضراته التي تتصف بالضبط العلمي، والتماسك المنهجي، والتجديد الفكري، وتتجلى فيها الروح العلمية بأعلى مستوياتها، ويجد فيها أهل العلم ضالتهم، كما تشهد له المحافل العلمية والفكرية، الإسلامية والدولية، التي يضيء ويضيف إليها بحضوره وعطائه العلمي والفكري الجاد والمتميز. كما يعد الدكتور طه من القلة الذين حاولوا بناء جسور العلاقة بين العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية والاجتماعية, وهذه واحدة من أكبر المهام الفكرية وأصعبها وأعقدها في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، وليس من السهولة على الإطلاق إنجازها، أو الادعاء بإنجازها، أو كسب ثقة واعتبار الآخرين بهذا الإنجاز، وعلامة على هذا الاهتمام، وسعيا لبناء هذه العلاقة، أسس الدكتور طه جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية سنة 1996م في الولايات المتحدة الأمريكية, وكأنه بهذا العمل الحضاري أراد أن يبحث عن نموذج ثالث يكون مفارقا لجامعات العلوم الإسلامية التقليدية في العالم العربي والإسلامي, ولجامعات العلوم الاجتماعية في الغرب، ولافتا من جهة أخرى إلى ضرورة الانفتاح والتواصل بين هذين الحقلين، ولهذه المهمة جاءت فكرة إسلامية المعرفة. وتفرغ في أواخر حياته نحو الدراسات القرآنية تفسيرا وبحثا، وأنجز مجموعة قيمة من المؤلفات والدراسات. هذا بعض ما عرفته عن الدكتور طه، الذي ولد وتوفي في 4 مارس، تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنته.

مشاركة :