عشنا لحظة تاريخية فريدة تتمثل في ملاحظة وقائع ثورة 25 كانون الثاني (يناير) لحظة وقوعها، وتتبع تشكلها وتطورها من يوم الى آخر، مما يدل على أن الفعل الثوري الذي بدأ في كانون الثاني 2011 لم يكتمل بعد، رغم قيام موجة ثورية ثانية في 30 حزيران (يونيو) أسقطت حكم جماعة «الإخوان المسلمين». ومما لا شك فيه أن ثورة يناير أحدثت في التاريخ المصري بل– ومن دون أدنى مبالغة- في التاريخ العالمي قطيعة تاريخية، Historical rupture مع الزمن الذي سبقها. والقطيعة التاريخية مصطلح علمي يعني الإشارة إلى تاريخ فاصل بين عصرين، أو بين نظامين سياسيين. تحدث القطيعة التاريخية حين تتغير طبيعة المجتمع- على سبيل المثال- كما حدث في الانتقال من المجتمع الزراعي الإقطاعي في أوروبا إلى المجتمع الصناعي، ومن الانتقال في القرن العشرين من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي global information society، بحكم ثورة الاتصالات العظمى وفي قلبها شبكة الإنترنت، وبروز أدوات الاتصال الاجتماعي الجديدة مثل «المدونات» Blogs و «الفايسبوك» و «تويتر» وغيرها، والتي كانت آليات أساسية لثورات الربيع العربي. وإذا كان اعتبارنا أن ثورة 25 يناير تمثل في التاريخ المصري المعاصر قطيعة تاريخية بحكم إسقاطها النظام السلطوي الذي ساد في عصر الرئيس حسني مبارك لمدة ثلاثين عاماً، وبداية الانتقال إلى النظام الديموقراطي، فإن السؤال الأهم هو: لماذا قلنا إنها تمثل أيضاً في التاريخ العالمي قطيعة تاريخية؟ لو عدنا إلى بعض الكتابات الغربية المهمة التي تناولت بالتحليل ثورة 25 يناير وغيرها من ثورات الربيع العربي لوجدنا- على سبيل المثال- مفكرين من أبرز المفكرين الماركسيين في العالم المعاصر وهما توني نغري ومايكل هاردت (مؤلفا الكتاب المهم «الإمبراطورية») يقولان في مقالة لهما إن ثورة يناير المصرية يمكن أن تكون إيذاناً بتجديد شباب النضال التحرري ضد الرأسمالية المعاصرة. وذلك لأنها من طريق حشد ملايين المواطنين في ميدان التحرير وفي ظل شعارها الأثير «سلمية سلمية»، استطاعت أن تسقط واحداً من أعتى النظم السلطوية في العالم العربي. وأهم من هذه الإشارات ذات الدلالة المهمة الكتاب الذي نشره عام 2012 الفيلسوف الفرنسي الماركسي الشهير آلان باديو وعنوانه في ترجمته الإنكليزية «إعادة ولادة التاريخ» The rebirth of History حين قرر أن الشعب– في ظل ثورات الربيع العربي- وقف على منصة التاريخ، بمعنى أنه ظهر مسيطراً على الموقف الثوري، ومتحكماً في مسار التاريخ لمصلحة الجماهير العريضة التي عانت طويلاً من القهر السياسي والمظالم الاجتماعية. وقد استوحيت عنوان كتابي الذي صدر عام 2013 عن «المركز العربي للبحوث» بالقاهرة وهو «الشعب على منصة التاريخ» من العبارات المضيئة لهذا الفيلسوف الفرنسي المتميز الذي قدم في كتابه نظرية متكاملة عن التمرد، وفرّق بين التمرد المباشر والتمرد الكامن، والتمرد التاريخي والذي هو الوصف الدقيق الذي أعطاه لثورة 25 يناير. وكتابي الذي أشرت إليه لم يكن دراسة تحليلية باردة تمت بعد اكتمال الثورة مطبقة المناهج التقليدية في العلوم الاجتماعية، وإنما هو دراسات لحظية متتابعة، حاولت منذ ثورة 25 يناير عبر مقالات أسبوعية في جريدة «الأهرام» تتبع وملاحقة وتحليل أحداث الثورة في تعاقبها السريع. ومن هنا كان لا بد لي كباحث في العلم الاجتماعي أن أصوغ إطاراً نظرياً يسمح لي بتغطية كل أبعاد الثورة من ناحية، وابتداع منهج يتناسب مع الحدث الثوري، وهو ما أطلق عليه «التنظير المباشر لأحداث الثورة». أما الإطار النظري فقد وضعته آخذاً في الاعتبار أبحاثي السابقة عن الثورة الكونية global revolution والتي هي كما حددتها في كتابي «الثورة الكونية والوعي التاريخي» (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية الطبعة الثانية، 1995) ثورة مثلثة الأبعاد. فهي ثورة سياسية، وتعني الانتقال من الشمولية والسلطوية إلى الديموقراطية في ضوء مبدأ بالغ الأهمية وهو نزع القداسة عن الزعماء السياسيين وإسقاط ديمومتهم في الحكم، والثورة القيمية وتعني الانتقال من القيم المادية، أي إشباع الحاجات الأساسية إلى القيم ما بعد المادية أي إشباع القيم الروحية وفي مقدمها الإحياء الديني والحفاظ على الكرامة الإنسانية، وأخيراً الثورة المعرفية ونعني الانتقال من الحداثة بتركيزها على الفردية والعقلانية الجامدة إلى ما بعد الحداثة باهتمامها بالجماهير المهمشة وبالروح الجماعية وبالانفتاح على العالم. وفي ضوء تأملي الأوضاع العالمية صغت إطاراً نظرياً لتحليل أحداث الثورة يتكون من سبعة أبعاد أساسية: البعد الأول: هو توصيف الزمن الذي نعيشه، والذي يوصف في أدبيات العلاقات الدولية الآن بأنه «الزمن العالمي». والذي يعرفه فيلسوف العلاقات الدولية الفرنسي زكي العيدي بأنه «اللحظة التي ظهرت فيها آثار المشكلات الجيوبولوتيكية والثقافية لحقبة ما بعد الحرب الباردة، أخذاً في الاعتبار تسارع عمليات العولمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والواقع أن هذا التعريف يدفعنا إلى البعد الثاني من إطارنا النظري وهو ظاهرة التسارع acceleration في وقوع الأحداث. والتسارع أصبح ظاهرة سائدة في الأحداث التي تقع كل يوم على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي، بصورة أصبحت تفوق قدرة صانع القرار على ملاحقتها واتخاذ القرار الصائب في شأنها. ويمكن القول إن تطبيقاً لافتاً للنظر حقاً لـ «الزمن المتسارع» ما وقع في ثورة 25 يناير، التي استطاعت بعد تظاهرات حاشدة استمرت ثمانية عشر يوماً فقط أن تسقط النظام السلطوي المصري الراسخ، بعدما هدرت أصوات الجماهير «الشعب يريد إسقاط النظام»! بعد الزمن العالمي والتسارع يأتي البعد الثالث عن التدفق Flow، والذي هو من أبرز سمات مجتمع المعلومات العالمي، وذلك لأن سرعة تدفق المعلومات والأفكار والسلع ورؤوس الأموال بل وتدفق البشر بين قارة إلى أخرى، أصبحت تشكل جوهر ظاهرة العولمة، وإذا أضفنا إلى ذلك تدفق الأحداث السياسية لأدركنا أنه لا يمكن تحليل الوقائع المتدفقة بالمناهج القديمة، لذلك نحن في حاجة إلى ثورة معرفية تبدع مناهج بحثية مستحدثة، قادرة على ملاحقة التشكل البالغ السرعة للمعلومات والأفكار بل والأحداث السياسية. والبعد الرابع من أبعاد إطارنا النظري الذي صغناه لتحليل وقائع الثورة هو قياس أصداء الثورة على المستوى الإقليمي العالمي. ومن خلال معايشتنا اليومية لأحداث الثورة اكتشفنا أن المسار في اليوم التالي للثورة لا بد له، بحكم تعقد المراحل الانتقالية، من أن يتعثر ومن هنا كان لا بد أن يتمثل البعد الرابع في الأسباب الظاهرة والكامنة وراء عثرات الثورة. غير أن تكرر عثرات الثورة لا بد أن يفضي إلى نشوء أزمة مستحكمة، وهنا يأتي البعد الخامس من إطارنا ويتمثل في تشريح طبيعة الأزمة الحادة التي شهدها المجتمع المصري في عام 2003 والتي تمثلت في الصراع الحاد بين غالبية الشعب المصري وجماهير جماعة «الإخوان المسلمين» وأدت إلى الانقلاب الشعبي الذي قام في 2013 بدعم جسور من القوات المسلحة ضد جماعة «الإخوان»، مما ترتب عليه عزل محمد مرسى رئيس الجمهورية السابق والقبض على قيادات «الإخوان» وإعلان خريطة الطريق في 3 تموز (يوليو). لم يبقَ من أبعاد إطارنا النظري الذي صغناه للتنظير المباشر لثورة 25 يناير سوى المخرج من الأزمة، وهو البحث الاستراتيجي المهم الذي يتعلق بأنسب الطرق للخروج من الأزمة إلى آفاق المستقبل الرحبة التي حلم بها ملايين المصريين الذي استجابوا بسرعة البرق إلى شباب الثورة، الذين أشعلوا نيرانها في ميدان التحرير، والذي أصبح أيقونة عالمية ترمز إلى جسارة الشعوب وقدراتها الفذة على تحطيم أغلال الشمولية وقيود السلطوية، وقد تمثل هذا المخرج في الموجة الثورية الثانية في 30 يونيو 2013. وهكذا من خلال هذا الإطار النظري المتماسك بأبعاده المتعددة، وهي الزمن العالمي والتسارع والتدفق والأصداء والتعثر والأزمة، حاولنا أن نقوم بالمهمة العلمية الشاقة التي تتمثل في التنظير المباشر لأحداث الثورة، وفق منهجنا التاريخي النقدي المقارن الذي صغناه منذ زمن بعيد. والواقع أن تطورات الأحداث العنيفة في ثورات الربيع بسلبياتها وإيجابياتها أصبحت تثير لدى الباحثين سؤالاً رئيسياً هو «ربيع العرب ما له وما عليه»، وهو ما سنحاول الإجابة عليه في المقالات المقبلة. * كاتب مصري
مشاركة :