سوق مزدهرة تحقق 5.3 تريليونات دولار سنوياً 35 ألف شركة صينية تدر 1.2 تريليون دولار سنوياً.. تساهم بحوالي 41 % من الناتج المحلي الإجمالي على عكس ما يعتقده البعض، فإن الحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، بدأت في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، لكنها، اكتسبت زخماً أكبر خلال فترة الرئيس السابق دونالد ترمب، ثم تصاعدت بشكل أكبر خلال إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، ففي عام 2010، بدت إدارة أوباما غير مقتنعة تماماً بأن الصين قادرة على المزيد من الاندماج والانفتاح العالمي، ثم جاء صعود الرئيس الحالي شي جين بينج للسلطة في نوفمبر 2012 بمثابة دليل آخر للأميركيين على قوة القيادة الصينية التي تستعصي على الترويض، وعند هذه النقطة، تدخلت وزارة التجارة الأميركية في عام 2015، فأطلقت تحقيقًا ضد شركة الاتصالات الصينية "زد تي إي"، واتهمتها بإعادة توريد التكنولوجيا الأميركية، التي تشتريها، إلى إيران وكوريا الشمالية للالتفاف على العقوبات، فقررت إدارة أوباما إضافة "زد تي إي" إلى قائمة الكيانات التي تتلقى سلعًا حساسة، فتم تغريمها 1.1 مليار دولار، وتم منعها من شراء التكنولوجيا الأميركية لمدة 7 سنوات، وهذه كانت البداية فقط. على مستوى الأرقام، فإن صناعة التكنولوجيا العالمية تدر أكثر من 5.3 تريليونات دولار سنوياً، أما في ميزان القوى، فإن الولايات المتحدة تمتلك كبرى شركات التكنولوجيا في العالم، فهي تعد موطنًا لأكثر من 585 ألف شركة تكنولوجية، وهذه الشركات هي من تقود الاقتصاد الأميركي حرفيًا، إذ تحقق إيرادات سنوية بحوالي 1.6 تريليون دولار، أي بما يعادل 35 % من حصة السوق العالمية، وهى تحتل المرتبة الثانية في قيادة الاقتصاد الأميركي بعد قطاع الرعاية الصحية، حيث تساهم التكنولوجيا بنسبة 10.5 % في الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، فيما يبلغ متوسط دخل المتخصصين في صناعة التكنولوجيا الأميركية 72 ألف دولار، وبالمقارنة، فإن هذا الراتب السنوي يزيد بمقدار 20 ألف دولار عما يتقاضاه المواطن الأميركي العادي، بينما تبلغ قيمة "الأربعة الكبار"، أبل، وجوجل، وأمازون، وفيسبوك، حوالي 4 تريليونات دولار، وتوظف هذه الشركات الأربع الضخمة حوالي 1.68 مليون شخص، منهم 1.3 مليون يعملون فقط لدى أمازون. أما في الصين، فإن عدد شركات التكنولوجيا يتخطى 35 ألف شركة، وتحقق إيرادات سنوية 1.2 تريليون دولار، حيث يساهم القطاع التكنولوجي بحوالي 41.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للصين، وتتميز الصين بأنها تنتج جحافل سنوية من مهندسي التكنولوجيا الجدد، وتتمتع بقدر كبير من الموهوبين في العلوم والرياضيات، ومع ذلك، لا تزال الشركات الأميركية تتهم نظيراتها الصينية بالقرصنة، ولهذا، نفذت الحكومة الفيدرالية مجموعة كبيرة من العقوبات ضد الشركات الصينية بزعم حماية الشركات الأميركية من سرقة الملكية الفكرية، وأكبر خمس شركات تكنولوجية في الصين هي هواوي، وجي دي، وتشاينا موبايل، وعلي بابا، وتينسنت، وهذه الشركات الخمس تحقق إيرادات سنوية بحوالي 546.2 مليار دولار. من وجهة النظر الأميركية، فإن الحرب التكنولوجية لها هدفان: الأول، منع بكين من اللحاق بالتفوق التكنولوجي، والثاني، تعظيم المسافة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، إلا أن هذا الصراع الثنائي سينشطر على الأرجح، وقد يخلق تأخراً خطيراً في صناعة التكنولوجيا العالمية عموماً، حيث تقدم الأرباح الضخمة للقطاع تفسيراً منطقياً لهذا الصراع العلني، فالأرقام تؤكد نمو الإنفاق العالمي على التكنولوجيا بنحو 8.5 تريليونات دولار في عام 2022، ومن المتوقع الوصول إلى عتبة 11.4 تريليون دولار في عام 2026، وهذا يعني معدل نمو سنوي مركب بنسبة 7.7% خلال 5 سنوات، ولهذا تحاول الصين، بشكل خاص، مشاكسة الولايات المتحدة، الأكبر تكنولوجياً، وأن تحاول الحصول على نصيب الأسد من هذه الكعكة الشهية والمربحة جداً عبر الإنفاق السخي على البحث والتطوير. مع بدايات هذا القرن، حلقت القوة التكنولوجية في الصين في عنان السماء، وقفز إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير في البلاد 11 ضعفا مقارنة بعام 2000، ليصل إلى 464 مليار دولار، أو 2.14 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، متجاوزاً إنفاق الاتحاد الأوروبي البالغ 377.8 مليار دولار أو 2.07 % من الناتج المحلي الإجمالي، ومقترباً من إنفاق الولايات المتحدة الذي بلغ 586 مليار دولار، أو 3.01 % من الناتج المحلي الإجمالي، ومنذ ذلك الوقت، انتبهت إدارة بايدن، فزادت الإنفاق على البحث والتطوير في الولايات المتحدة بشكل أسرع، ليصل إلى 707.8 مليار دولار في عام 2022، أو 3.4 % من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، حيث يمثل الإنفاق على البحث والتطوير عصب براءات الاختراع وأساس تحقيق أي قيمة مضافة للاقتصاد. يمكن القول، بأن الحرب التكنولوجية بين واشنطن وبكين لها سببان مترابطان، الأول اقتصادي، والثاني سياسي، وينبع البعد الاقتصادي من رغبة الصين في بناء قدرتها الصناعية والارتقاء على عرش الاقتصاد العالمي وتنحية الولايات المتحدة عن القيادة، وهو النهج المنصوص عليه بوضوح في استراتيجيتها "صنع في الصين 2025"، والتي تم الكشف عنها لأول مرة في مايو 2015، فمن خلالها تريد الصين الانتقال إلى ما هو أبعد من مجرد كونها "مصنع العالم"، حتى تصبح أكثر استقلالاً اقتصادياً وتكنولوجياً، ولهذا، تسعى بكين إلى إعطاء الأولوية للطلب المحلي كمحرك للنمو من دون أن تدير ظهرها لاستراتيجيتها التصديرية، وبالنسبة للصين، فإن الاستقلال التكنولوجي يعني في المقام الأول الاكتفاء الذاتي في تصنيع أشباه الموصلات، والتي تعد حاليا أكبر مستهلك لها على مستوى العالم ( تشتري 40 ٪ من المبيعات العالمية)، أي أن الصين تنفق سنوياً 33 مليار دولار على شراء أشباه الموصلات، ولهذا حددت مبادرة "صنع في الصين 2025" هدفًا يتمثل في تلبية 70 % من الاستهلاك المحلي بحلول 2025، ومن أجله، تم تخصيص أكثر من 50 مليار دولار للاستثمار في قطاع تسارع الزمن للقبض عليه. بالطبع، لم تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي أمام المبادرات الصينية الواعدة، فاعتبارًا من أكتوبر عام 2022، قررت واشنطن اعتبار أي شيء يسهل على الصين تطوير أشباه الموصلات المتقدمة، أو حيازة البرامج المتقدمة أو أجهزة الكمبيوتر العملاقة، اعتبرته بمثابة تهديد للأمن القومي الأميركي، وجاء الانتقام الصيني على مهل، وتركز على مراجعة الأمن السيبراني لشركة ميكرون الأمريكية، التي حظرتها الهيئات التنظيمية الصينية، وبهذا فقدت الشركة الأميركية مبيعات سنوية في الصين بحوالي 3.3 مليار دولار، وترافق مع هذا الأمر، إعلان بكين في ديسمبر 2022، حزمة مالية لدعم صناعة أشباه الموصلات بقيمة 143 مليار دولار، إلا أن الأمور أصبحت أكثر صعوبة للصين في مارس 2023، عندما أعلنت اليابان وهولندا أنهما ستنفذان أيضاً ضوابط تصدير جديدة على معدات تصنيع أشباه الموصلات، وهاتان الدولتان توفران مع الولايات المتحدة 90 % من كل المعدات المستخدمة في مصانع رقائق الكمبيوتر في مختلف أنحاء العالم، وهكذا، بنت أميركا تحالفاً تكنولوجياً ضد الصين. حاولت بكين مراراً العمل على فصل واشنطن عن حلفائها، ولكنها، فشلت هذه المرة في إثناء هولندا واليابان على تبني ضوابط جديدة على الصادرات فائقة التكنولوجيا، ورغم ذلك لم تستسلم، بل تحول انتباهها إلى دول أخرى في أوروبا وآسيا مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية، وإذا كانت الصين متأخرة بعقود عن الولايات المتحدة واليابان وهولندا في قطاع تصنيع أشباه الموصلات، إلا أن ألمانيا وكوريا الجنوبية ليستا كذلك، ولهذا نجحت الصين في الالتفاف جزئياً على التحالف الأميركي ضدها، واستطاعت الجمع بين الخبرة الفنية الألمانية والكورية من جانب، والموارد المالية الصينية والقدرة الهندسية من جانب آخر، ولا شك أن هذه التوليفة ستشكل تهديداً خطيراً لأميركا، لأن الشركات الألمانية والكورية الجنوبية، تنجذب إلى الأرباح قصيرة الأجل التي تأتي عبر نقل التكنولوجيا إلى الصينيين، وهي تتوقع تحقيق أرباح سنوية كبيرة جداً.
مشاركة :