مع بدء الاجتياح الإسرائيلي البري الواسع، وبعد مرور أكثر من 25 يوماً على نشوب حرب غزة في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، بدأت تظهر ملامح تراجع كبير لاحتمال دخول إيران مباشرة في حرب ضدّ إسرائيل وحلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة في إطار ما يُسمّى "وحدة الساحات". ومع قيام طهران بخطوات تراجعية، فإنّها تدفع بوكلائها في المنطقة إلى انخراط أكبر في ساحات عدة، إنما محدود الفعالية، ولا يؤثر اطلاقاً على مسرح العمليات بين إسرائيل وحركة "حماس" والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة. لكن اللافت، أنّ ابتعاد إيران عن خطر المواجهة الكبيرة في مقابل تقدّم أذرعها في الإقليم، أكان في العراق أم سوريا أم اليمن وصولاً إلى لبنان، يبقى منضبط الإيقاع الى حدّ بعيد. فلم يعد الحديث يدور عن احتمالات امتداد الحرب إلى كل المنطقة في ضوء الانخراط الفاعل للولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي، وإبدائهم الاستعداد المعلن لخوض حرب ضدّ أطراف ثالثة. والمعني بالأطراف الثالثة إيران التي تعرف قيادتها أنّ هذه الحرب جدّية، وأنّ الالتزام الأميركي حقيقي ولا يندرج في سياق الحرب النفسية فقط. بل إنّ الحشد العسكري الأميركي والأطلسي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية في البحر الأبيض المتوسط موجود للاستخدام وليس للاستعراض. لذلك كله، بدأنا نسمع أصواتاً مختلفة صادرة عن المسؤولين الإيرانيين عمّا كان الحال في الأسبوعين الأوليين للحرب. إنّ إيران البراغماتية تلعب لعبة نفوذ في المشرق العربي وتعرف قوانين اللعبة جيداً. وتعرف أنّ اعتبار إسرائيل وأميركا أنّ الحرب الدائرة لها طابع وجودي معناه ضرورة انكفاء طهران ريثما تمرّ العاصفة. لكن ثمة هوامش يمكن التحرّك ضمنها، كالإيعاز لأذرعها في العراق أو سوريا أو اليمن، بمهاجمة قواعد أميركية ببضع مقذوفات صاروخية من الجيل القديم، فيما يُعهد للذراع الأهم في المنطقة أي "حزب الله"، بمهمّة مناوشة الإسرائيليين، ومشاغلة قسم من الجيش الإسرائيلي تحت عنوان تخفيف الضغط عن حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" من خلال إجبار الجيش الإسرائيلي على حشد عدد من قواته عند الحدود مع لبنان وسوريا. هذه هوامش معقولة حتى الآن، ولا تؤثر كثيراً على نهائية الصراع الدائر في غزة. والحقيقة أننا يقيناً لا نعرف مدى قدرة الجيش الإسرائيلي على بلوغ أهدافه، لأننا نجهل القدرات الفعلية لـ"حماس". ويمكن لهذه الأخيرة أن تفاجئ العالم بإفشال الحملة البرية وتكذيب معظم التوقعات. في مكان آخر، تسعى طهران للتعويض عن كونها تطلب اليوم السلامة لنفسها بمحاذرة التورط في حرب بهذا الحجم، فتفتح جبهات ميدانية ودعائية ضدّ دول المحور العربي وفي مقدمتها السعودية والإمارات والأردن والمغرب، تحت شعار شيطنة مواقف هذه الدول الأربع مما يجري في غزة. طبعاً إنّها حملة دعائية واسعة النطاق في وسائل التواصل الاجتماعي ضدّ هذه الدول العقلانية وفي مقدمتها الإمارات والسعودية. لكنها أيضاً حملة أمنية - عسكرية منسّقة، تارة للتهويل على السعودية بتحرشات الحوثيين المتكرّرة، والضغط على الحدود الأردنية مع العراق، وأخيراً تفعيل ورقة تنظيم "بوليساريو" (مع الجزائر) ضدّ المغرب الذي تجلّى بالاعتداء على مدينة السمارة في الصحراء المغربية وسقوط ضحايا مدنيين فيها. ستنتهي الحرب في غزة. وبصرف النظر عمّا إذا كان باستطاعة تل أبيب أن تحقق أهدافها العسكرية أم لا، ستظهر صورة الكارثة وخلفياتها الحقيقية.
مشاركة :