في العام 420 هـ ظهر، باسم الخليفة العباسي «القادر بالله»، كتابٌ وُضِعَت فيه عقيدة (أهل السنة والجماعة) وسُمّي بـ «الاعتقاد القادري». إلا أن ابن تيمية يقول بأن الكتاب من جمع الشيخ أحمد الكرجي القصّاب، وإنما نُسبت العقيدة إلى القادر لأنه من فرضها على المسلمين، حُيث أمر بأن يقرأ الكتاب على الناس في المساجد والجوامع والتجمعات، وعند حدوث النزاعات بين المذاهب. وكان كل من يُخالف ما جاء فيه يُستتاب، لأنه يعتبر بفعله ذلك كافراً! ويقول الدكتور عبدالعزيز آل عبداللطيف، عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في دراسة حول الاعتقاد القادري: «فلم يقتصر على مجرد قراءته وإقرار العلماء به، بل أضيف إلى ذلك أن من خالف هذا الاعتقاد، ليس مسلمًا، بل هو فاسق كافر». ثم يذكر كلاماً على لسان ابن تيمية يقول فيه: «ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام، وجهاد أعدائه، حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر، حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة». وقبل ذلك لم يتوان المهدي والرشيد في جلد أو سجن أو قتل من خالف اعتقادهما الديني، وكان المتسائل في مسائل الإيمان في بلاط الرشيد يُزنْدَق، ثُم يطلق الرشيد أمره الشهير «عَلَيّ بالنّطع والسيف». وعندما اعتلا المأمون كرسي الحُكم فعل في أهل السُنّة ما فعله أبوه وجده في المعتزلة، وكأنهم يُحققون، ولكن في الدنيا، قوله تعالى: «كلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا». والمتمعن في التاريخ يُدرك بأن هذه الصراعات كانت سياسية بحتة، كما هو حال صراعاتنا اليوم، التي تبدو طائفية إلى حد بعيد، ولكنها في حقيقتها حروب سياسية، تقودها الدول وأصحاب المشاريع التاريخية الذين يرغبون في السيطرة على الناس من خلال الدين. حاول أن تتذكر الآن متى شاهدت وسمعت عالم دين على التلفاز يتحدث عن الأئمة الأربعة؟ متى سمعت مُفتياً يسأل المتصل عن مذهبه ليُفتيه بما يتناسب معه؟ هذا ليس تقليلاً من مذهب ما، فالخير في كل المذاهب، ولكنه استغراب من حجم الجهود التي تبذلها جهات معيّنة لتغييب فكرة المذهبية من ذهن الأمة! ولا غرابة أنه بسبب غياب تلك الفكرة خلال عقود طويلة، نشأ جيل لا يعرف كيف يختلف، وكيف يقبل الآخر. فالآخر بالنسبة إليه مشكلة، ووجوده تحدٍ، والتعامل معه صراع! لذلك تراه عند أول وأبسط خلاف يهرع إلى تصنيف الآخرين وتبديعهم لأنه غير مدرك بأنه يجوز أن يدخل الجنة هو ومن يختلف عنه، فالجنة ليست ملكية خاصة. تصور لو أن أئمة المساجد كانوا يرددون دائماً عبارات مثل (قال المالكية.. قال الأحناف.. قال الشافعية.. قال الحنابلة)، فهل كنت ستجد اليوم حَرَجاً من فكرة الخلاف؟ المذهبية لا تعني التصنيف بل إنها تعزيز لفكرة التنوع من خلال الاختلاف. فعلى سبيل المثال، عندما يعتاد من يقبض يديه في الصلاة أن يرى من يرسلهما واقفاً إلى جانبه ولا يشعر أحدهما بالحاجة للحكم على صاحبه أنه على خطأ، فإن موجة العنف الفكري، والانشقاق المذهبي الذي تعيشه الأمة اليوم قد تبدأ بالتراجع قليلاً. ربما يبدو المثال بسيطاً، ولكن علينا أن نبدأ بتقبل اختلافنا في هذه الفروع البسيطة أولاً حتى نستطيع أن نقبل وجود الآخرين الذين يختلفون عنا في المذهب والعقيدة والدين، مستقبلاً. إن الدعوة إلى توحيد الأمة على نسق واحد وتهميش فكرة التمذهب والاختلاف هي نوع من أنواع العنف الفكري، والتسطيح العقلي. فإذا كان القرآن يُقرأ بعَشْرِ قراءات فكيف نطلب من الناس اتباع مذهب واحد! تحدثتُ في هذا الموضوع مع أحد المتشددين الذين يغزون الإنترنت بآرائهم الإقصائية، فاستشهد بآية: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» وقال بأننا يجب أن نتقاتل حتى لا تفسد الأرض! بحثتُ عن تفسير الآية فوجدتُ عند القرطبي: «لولا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم. قال الثعلبي وقال سائر المفسرين: ولولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجار والكفار لفسدت الأرض، أي هلكت وذكر حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يدفع العذاب بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم الله طرفة عين) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)». نعم، إن الحياة صراع دون شك، ولذلك كان تحقيق السِّلْمِ ونشر السلام تحدياً كبيراً، وغاية نبيلة. تحدث بعض العلماء عن أن اللا مذهبية مقدمة للا دينية، وأعتقد أنها أيضاً طريق مُعبّدة للطائفية والتخندق والانشقاق. يقول فرويد: «نشأت الحضارة لأول مرة عندما ألقى رجل غاضب كلمة بدل أن يلقي حَجَراً». نحتاج إلى أن نتوقف عن رمي حجارة التكفير واللعن والتبديع، ونُعلّم أبناءنا كيف يُثرون حياتهم بتقبل الاختلاف، مثلما تُثري الألوان المختلفة اللوحة الجميلة. لسنا في حاجة لحُب الناس جميعاً، ولكننا في حاجة لنتعلّم كيف نعيش معهم.
مشاركة :