إن الوحشية التي لم يسبق لها مثيل والتي لا يمكن فهمها التي ألحقتها حماس بـ 1400 من المدنيين الإسرائيليين الأبرياء والجنود خارج الخدمة قد هزت حتى النخاع كل إنسان لديه ضمير. علاوة على ذلك، فقد هزت أيضاً الظروف السائدة بين إسرائيل والفلسطينيين، مما يجعل من المستحيل العودة إلى الوضع الذي كان قائماً من قبل. إن هذه المذبحة غير المفهومة تقدم، ولو في ظل ظروف مروّعة، فرصة غير مسبوقة لوضع نهاية تدريجية للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. إن هؤلاء المتطرفين الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين رفض كل منهم حق الآخر في الوجود في دولة مستقلة وفي سلام، استيقظوا الآن على الحقيقة الأكثر مرارة، وهي أن كلا الجانبين موجودان هنا ليبقيا. لقد أدى هذا الإنهيار غير المسبوق الناتج عن وحشية حماس إلى تغيير جذري في ديناميكية الصراع وخلق نموذج جديد يمكن أن يؤدي إلى اختراق ذي أبعاد تاريخية للتوصل إلى اتفاق سلام على أساس حل الدولتين. ويمكن أن تتحقق هذه الفرصة أو تضيع اعتماداً على مدى دقة الخطط الاستراتيجية التي وضعتها إسرائيل (وحليفتها التي لا غنى عنها في فترة ما بعد الحرب، ألا وهي الولايات المتحدة)، التي لها أهمية قصوى، والتي بدونها ستصبح التضحيات والخسائر التي يتعرض لها الأبرياء عبثا دون أية جدوى. ومرة أخرى سيكون السؤال: ليس هل، ولكن متى ستحدث الحرب الإسرائيلية – الفلسطينية المروعة التالية. مقدمة منذ حرب الأيام الستة عام 1967 بُذلت جهود كثيرة للتوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين من خلال الوساطة التي يقوم بها وسيط محايد، والمفاوضات وجهاً لوجه، والمؤتمرات الدولية، وتقديم الحوافز، ومحادثات القنوات الخلفية، والاتفاقات المرحلية وخاصة اتفاقات أوسلو)، وأحيانا من قبل جهة مؤثرة تمارس الضغوط على الجانبين، وخاصة الولايات المتحدة. وكما نعلم، لم تنجح أي من الأساليب المذكورة أعلاه أو العديد من الطرق الأخرى للتوصل إلى اتفاق سلام. ويُعزى الفشل في التوصل إلى اتفاق بشكل أساسي إلى حقيقة أن كلا الجانبين يطالبان بالملكية الحصرية لكامل الأرض من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن، على الرغم من أنهما يلقيان اللوم على بعضهما البعض للفشل في تقديم التنازلات اللازمة للتوصل إلى اتفاق سلام. وفي حين أن احتمال حل الدولتين كان قابلاً للتطبيق بعد اتفاقيات أوسلو عام 1993، فإن آفاق مثل هذا الحل أصبحت قاتمة تدريجياً مع تحرك إسرائيل إلى يمين الوسط. أوضح رئيس الوزراء نتنياهو- الذي كان عازما على تخريب اتفاقات أوسلو منذ البداية عندما شغل منصب رئيس الوزراء بين عامي 1996 و1999، وظل في السلطة طوال معظم السنوات الخمس عشرة الماضية – مرارا وتكرارا أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية تحت إشرافه. وأخذت فكرة حلّ الدولتين تفقد جاذبيتها بشكل مطرد في إسرائيل، وتم تطبيع احتلال الضفة الغربية وإنشاء دولة الفصل العنصري بحكم الأمر الواقع، وهو أمر أصبح أسلوب حياة لمعظم الإسرائيليين والفلسطينيين. الديناميكية المتغيرة للصراع من المعروف جيدًا في مجال حل النزاعات أنه في بعض الأحيان يتطلب الأمر حدوث انهيار كبير يؤدي إلى حدوث أزمة غير عادية لتغيير ديناميكية الصراع. وتشكل حرب يوم الغفران المدمرة وغير المتوقعة على نحو صادم في عام 1973 والتي أدت فيما بعد إلى اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل، مثالاً قوياً على ذلك. وعلى هذا النحو، فقد جعل من المستحيل ببساطة العودة إلى الوضع السابق. في الواقع، لن تعود إسرائيل ولا الفلسطينيون، بما في ذلك حماس، إلى حالهم بعد هذه المذبحة البشعة وغير المسبوقة وانتقام إسرائيل الذي أدى بالفعل (حتى كتابة هذه السطور) إلى سقوط أكثر من 7000 ضحية فلسطينية – ناهيك عن الموت والدمار الذي لا يمكن تصوره وهذا سيحدث إذا قامت إسرائيل بغزو بري واسع النطاق لغزة. كان ينبغي توقع هذا الرعب المتكشف بسبب ما كان يحدث على الأرض في الضفة الغربية وغزة خلال السنوات القليلة الماضية، وخاصة في الأشهر العشرة الأخيرة منذ تشكيل الحكومة الائتلافية اليمينية الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل (كما أشرت إلى ذلك في مقالتي المنشورة بتاريخ 3 أكتوبر 2022). في الواقع، لم يكن الأمر بحاجة إلى نبي ليتنبأ بما سيحدث بعد ذلك. أصبحت أعمال العنف المتزايدة في الضفة الغربية تحصد حياة مئات الفلسطينيين كل عام، معظمهم تحت سن الثلاثين (قُتل حتى الآن هذا العام ما يقرب من 300 فلسطيني من الضفة الغربية، بما في ذلك 102 منذ 7 أكتوبر وحتى لحظة كتابة هذه المقالة). وأصبحت المداهمات الليلية المتكررة وعمليات الإخلاء والسجن وهدم المنازل والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هي القاعدة. لقد اجتاح اليأس والاكتئاب والقنوط قسماً كبيراً من السكان الفلسطينيين على نحو يشبه تجمع عاصفة شرسة اختارت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بقيادة نتنياهو التخلص منها. علاوة على ذلك، فإنه البعد النفسي للصراع هو الذي ظهر الآن بشكل كامل، وكشف عن الصدمة العقلية والعاطفية التي عاشها الفلسطينيون منذ عقود والتي كان الإسرائيليون غافلين عنها وكان من المحتم أن تظهر بطريقة غير مسبوقة. تزايد استياء الفلسطينيين وكراهيتهم لإسرائيل. وبما أن الحكومة الجديدة لم تتمكن رسميًا من ضم الأراضي الفلسطينية، فقد لجأت إلى تخويف ومضايقة الفلسطينيين تحت أعين وزير الأمن القومي المجرم إيتمار بن غفير الذي أعطى المستوطنين الحرية الكاملة في هياج المجتمعات الفلسطينية من أجل “حثّهم” على الرحيل. أصبحت نية حكومة نتنياهو لضم جزء كبير من الضفة الغربية ببطء واضحة تمامًا. ومع ذلك، لا يمكن لأي مما سبق أن يبرر تحت أي ظرف من الظروف هجوم حماس الشنيع على المدنيين الإسرائيليين ويجب على حماس أن تدفع ثمن ذلك غاليا، وسوف تدفع الثمن. ولكن مثل هذه المذبحة التي لا يمكن تصورها حدثت بسبب “الاستراتيجية” المحفوفة بالمخاطر التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والتي مكنت حماس ومنعت إنشاء دولة فلسطينية مستقلة. وهذا ما يفسر أيضًا سبب رفض نتنياهو المستمر للتفاوض مع أي حكومة وحدة محتملة بين السلطة الفلسطينية وحماس. نشأة حماس إسرائيل هي التي أنشأت حماس لموازنة حركة منظمة التحرير الفلسطينية الوطنية العلمانية بقيادة ياسر عرفات، والتي كان المقصود منها تقسيم الفلسطينيين إلى معسكرين ومنع إنشاء دولة فلسطينية. إن إنشاء إسرائيل لحركة حماس، وهو ما أكده العديد من كبار المسؤولين العسكريين والمدنيين الإسرائيليين على مدى عدة سنوات، أمر لا جدال فيه. قال العميد السابق يتسحاق سيغيف – الذي كان الحاكم العسكري الإسرائيلي في غزة في أوائل الثمانينيات لمراسل صحيفة نيويورك تايمز – إنه ساعد في تمويل حماس باعتبارها “ثقلاً موازناً” للعلمانيين واليساريين في منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح بزعامة ياسر عرفات، وصرّح قائلا ”لقد أعطتني الحكومة الإسرائيلية ميزانية والحكومة العسكرية تعطيها بدورها للمساجد”. ومن بين كثيرين آخرين، قال أفنير كوهين، مسؤول الشؤون الدينية الإسرائيلي السابق الذي عمل في غزة لأكثر من عقدين من الزمن لصحيفة وول ستريت جورنال في عام 2009 إن “حماس، لأسفي الشديد، هي صنيعة إسرائيل”. في مقابلة أجريت معه عام 2015 قال بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الحالي والمسؤول أيضًا عن تنسيق الأنشطة الحكومية في الأراضي (COGAT)، إن “السلطة الفلسطينية عبء، وحماس مكسب”. وفي مقال نشر في صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 18 أكتوبر 2023 بعنوان “نتنياهو قادنا إلى الكارثة. يجب أن يرحل”، قال المؤلف غيرشوم جورنبرج إن “إعادة غزة إلى السلطة الفلسطينية لم تكن على ما يبدو جزءًا من أجندة رئيس الوزراء. لقد كانت حماس هي العدو، وفي تطور غريب، كانت حليفة ضد تهديد الدبلوماسية وحل الدولتين والسلام”. وفي الواقع، لم يتّبع أي رئيس وزراء إسرائيلي سياسة فرق تسد الكارثية هذه بقوة أكبر من نتنياهو. وعلى الرغم من استمراره في الحصار على غزة، إلا أنه سمح بتدفق مئات الملايين من الدولارات من قطر ودول أخرى إلى خزائن حماس، وهو يعلم تمام العلم أن أكثر من 50% من هذه الأموال استخدمتها حماس لشراء وتصنيع الأسلحة، بما في ذلك عشرات الآلاف من الصواريخ، وبناء شبكة ضخمة من الأنفاق ذات القيادة والسيطرة بينما تستعد للحرب القادمة. وذكر جورنبرج أيضًا أنه “في عام 2019، على سبيل المثال، أوضح نتنياهو سبب سماحه بدعم نظام حماس في غزة بأموال من قطر بدلاً من اعتماده على الحبل السري المالي للضفة الغربية. وقال لمشرعي الليكود إن “كل من هو ضد الدولة الفلسطينية ينبغي أن يكون مع التمويل القطري…”. وصرح يوفال ديسكين، رئيس الشاباك من 2005 إلى 2011، في يناير 2013 قائلا أنه “إذا نظرنا إلى الأمر على مرّ السنين نرى أن أحد الأشخاص الرئيسيين الذين ساهموا في تعزيز حماس هو بيبي نتنياهو منذ ولايته الأولى كرئيس للوزراء”. وفي تصريح أكثر دلالة من شخص منغمس بعمق في السياسة والحكم الإسرائيلي، قال إيهود باراك في أغسطس/آب 2019: “استراتيجيته (المقصود نتنياهو) هي إبقاء حماس حية ومزدهرة… حتى على حساب التخلي عن المواطنين [في الجنوب …[ من أجل إضعاف السلطة الفلسطينية في رام الله……”. لقد كانت “استراتيجية” نتنياهو المشؤومة مجرد وهم. لقد كان يعتقد أنه قادر على السيطرة على الوحش الذي رعاه على مر السنين، والذي عاد بدلاً من ذلك ليذبح مئات الإسرائيليين الأبرياء الذين كانوا يعتمدون على حكومتهم للحصول على الحماية وقد ُخذلوا بشكل مأساوي. لقد تعرضوا للخيانة من قبل رئيس الوزراء الذي كان يركز على تعزيز أمن إسرائيل في الضفة الغربية بينما يضعف أمن الجبهة الجنوبية على طول حدود غزة. وبينما لم يدخر نتنياهو أي جهد من أجل “إصلاح” السلطة القضائية، كانت حماس تخطط وتدرب وتحصل على الأسلحة وتتقن التقنية لشن الهجوم الأكثر جرأة ضد إسرائيل الذي لم يكن لأحد أن يتخيله. لقد حدث كل ذلك تحت مراقبة نتنياهو. والأسوأ من ذلك، كيف يمكن أن يكون جهاز الإستخبارات الأكثر شهرة في العالم، الموساد الإسرائيلي، قد فشل في الكشف عن التخطيط لهجوم بهذا الحجم الذي ربما استغرق الإعداد له أكثر من عام؟ ولماذا تجاهل نتنياهو تحذير وزير المخابرات المصري اللواء عباس كامل الذي اتصل شخصياً بنتنياهو وحذره من أن حماس من المرجح أن تقوم “بعملية مروّعة وغير عادية” قبل عشرة أيام فقط من الهجوم؟ أنا لا أشير أو حتى ألمح إلى أن نتنياهو كان يعلم ما سيحدث ولكنه اختار أن يتجاهل ذلك، بل إنه كان ببساطة رافضًا لما تستطيع حماس فعله، ويعتقد أنه كان يتعامل بشكل جيد مع ما كان يحدث في غزة. لقد كان منشغلاً بإصدار التشريعات التي من شأنها إخضاع المحكمة العليا وتعيين القضاة لسياسيين منتخبين، الأمر الذي كان من شأنه أن يدمر الديمقراطية في إسرائيل ويسمح له بتولي السلطات الاستبدادية التي كان يطمح إليها بشدة. ورغم أن الفلسطينيين عموماً، سواء كانوا في الضفة الغربية أو غزة، هم مدنيون أبرياء، فإن المتطرفين بينهم ارتكبوا العديد من أعمال العنف الشنيعة ضد إسرائيل. لقد أهدر القادة الفلسطينيون العديد من الفرص لتحقيق السلام، وارتكبوا أخطاء لا حصر لها أدت إلى تفاقم وضعهم. علاوة على ذلك، فمن خلال تهديد وجود إسرائيل نفسها، سمحت الجماعات المتطرفة مثل حماس والجهاد الإسلامي للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بطرح قضية قوية ضد الفلسطينيين من خلال تصويرهم على أنهم عدو لدود لا يمكن إصلاحه ويشكل الخطر الأكبر على الأمن القومي الإسرائيلي، وبالتالي لا يمكن أن يكون الفلسطينيّون طرفا في السلام. ومع هذه المنظورات التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية، أصبح الإبقاء على الاحتلال سياسة الدولة، مهما اعتبرها أي مراقب متحمس ومطلع غير مستدامة. ماذا بعد ذلك بمجرد انتهاء الحرب وانقشاع الغبار، فإن أغلبية متزايدة من كلا الجانبين سوف تعترف بحقيقة واحدة لا رجعة فيها. إن التعايش ليس أحد الخيارات العديدة، بل هو الخيار الوحيد، سواء كان ذلك في ظل ظروف السلام أو العداء العنيف الدائم. لقد عاد حل الدولتين إلى الطاولة، لأنه كان دائما الخيار الوحيد القابل للتطبيق. ويجب على الجانبين الآن أن يواجها هذا الواقع المرير. والسؤال الآن هو ماذا قد يحدث الآن بعد أن أصبحت إسرائيل وحماس على وشك الدخول في قتال عنيف على الأرض من شأنه أن يفرض بلا شك خسائر فادحة على الجانبين. وأنا أعتقد بأنه سواء قامت إسرائيل بغزو بري واسع النطاق لغزة، أو توغلت جزئيا في الجزء الشمالي منها، أو واصلت قصفها المستهدف لمعسكرات حماس في حين تسعى إلى قطع رؤوس أكبر عدد ممكن من قادتها، أو ببساطة توقف القتال وتركز على إطلاق سراح أكثر من 200 رهينة، فلن يغير أي شيء بأي شكل من الأشكال النموذج الجديد الذي لا رجعة فيه والذي أيقظ الجانبين بمرارة على وضعهما الراهن البائس وغير القابل للاستمرار. وللتأكيد، فأن الخيار الذي ستختاره الحكومة الإسرائيلية لإنهاء الصراع لن يؤدي إلّا إلى تحديد طول الوقت الذي قد يستغرقه ذلك، ومدى الصعوبات في المفاوضات، وشكليات عملية التفاوض، ومستوى ضغط الرأي العام والمجتمع الدولي لإيجاد حل، واحتمال وقوع أعمال عنف متقطعة. ولكن أياً من هذه القضايا لن تغير نقطة الانطلاق الأساسية التي تشير في النهاية إلى حلّ الدولتين، بغض النظر عن عدد العقبات الأخرى التي قد تواجههم. هناك خمسة إجراءات ينبغي على الحكومة الإسرائيلية، إلى جانب الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، اتخاذها لدفع عملية السلام إلى الأمام. أولاً، لا ينبغي لإسرائيل أن تشن غزواً برياً واسع النطاق على غزة، وهو ما من شأنه أن يؤدي حتماً إلى دمار هائل وآلاف من الضحايا على الجانبين، وخاصة المدنيين الفلسطينيين، ويعرض حياة الرهائن إلى قدر أعظم من الخطر. وأكثر من أي شيء آخر، من الوهم الخطير أن تفترض إسرائيل أن الغزو، بغض النظر عن حجمه، سوف يأسر أو يقتل جميع قادة حماس وكبار نشطائها ويمنعها من إعادة تشكيل نفسها على الإطلاق كحركة مقاومة وككيان سياسي. إن العديد من قادة حماس لم يعيشوا في غزة منذ سنوات، أو فروا منها مؤخراً. معظم قادة حماس و”جنود المشاة” متمركزون في المجتمع المدني وفي مجمع ضخم من الأنفاق في انتظار الغزو البري من أجل قتل وجرح المئات، إن لم يكن الآلاف، من الجنود الإسرائيليين. إنهم يعلمون جيدًا أنهم سيتكبدون خسائر فادحة ودمارًا هائلاً، لكنهم لن يخسروا الحرب إلا من الناحية الفنية وأنه لا يزال بإمكانهم إعادة تشكيل أنفسهم بغض النظر عن الخسائر الهائلة التي قد يتكبدونها. فإسرائيل ببساطة لا تستطيع القضاء على حركة دينية أو طمس أيديولوجية ما. والاقتراح، كما صرح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت مؤخراً، بأننا “سوف نمحوهم [حماس] من على وجه الأرض” هو وهم. وحتى لو تمكنت إسرائيل من قطع رأس كل من كبار قادة حماس، فسوف تكون مسألة وقت فقط قبل أن ينهض جيل جديد من القادة الفلسطينيين. وإذا أعادت إسرائيل احتلال غزة لمنع حماس من إعادة تشكيل نفسها، فسوف يكون هذا بمثابة جنون محض، ومستنقع لا تستطيع إسرائيل الخروج منه دون تكبد خسائر بشرية فادحة. فضلاً عن ذلك فإن إسرائيل سوف تضطر إلى رعاية 2.2 مليون فلسطيني، هذا فضلاً عن التمرد المتواصل من جانب المقاتلين الفلسطينيين العازمين على قتل وتشويه الجنود الإسرائيليين، وهو ما من شأنه أن يحول حياة القوات الإسرائيلية إلى جحيم لا يطاق. إن الرغبة في الانتقام والاخذ بالثأر في أعقاب المذبحة التي راح ضحيتها 1400 إسرائيلي أمر مفهوم تماماً، وفي أذهان كثيرين فإن الانتقام هو السبيل الوحيد لتخفيف الألم الذي لا يطاق والذي يعيش معه العديد من الإسرائيليين. ولكن الموت الحتمي لمئات من الجنود الإسرائيليين الشباب، إذا قررت إسرائيل غزو غزة، لن يؤدي إلاّ إلى تفاقم المأساة الوطنية ولن يقدم أي حل. إن موت آلاف الفلسطينيين الأبرياء لن يعيد إلى الحياة إسرائيلياً واحداً مات على مذبح حكومة خذلت شعبها. إن المسار الأفضل بالنسبة لإسرائيل يتلخص في مواصلة عمليات القتل المستهدف، وحفظ ماء الوجه، والقيام بتوغل محدود في شمال غزة، وإبقاء زعماء حماس هاربين، وقطع تدفق الأموال، مع التركيز على إطلاق سراح الرهائن. يجب على إسرائيل أن توضح علناً وبشكل لا لبس فيه أن قتالها هو ضد حماس وليس ضد الشعب الفلسطيني البريء. علاوة على ذلك، يتعيّن على إسرائيل أن تسهل تسليم جميع الضروريات الأساسية، وخاصة مياه الشرب والأدوية والغذاء، وتحت رقابة صارمة من قبل مراقبي الأمم المتحدة، الوقود لتوليد الكهرباء وتغذية المولدات. ولكن بما أن إسرائيل غير قادرة على القضاء على حماس، فإنها لن تتمكن إلا من إضعافها إلى الحد الذي تصبح فيه غير فعالة فعلياً، وذلك من خلال توفير البديل الذي من شأنه أن يحسّن حياة الفلسطينيين بشكل كبير ويقدم لهم مساراً واعداً للمستقبل. ثانياً، يتعين على إسرائيل أن تتقبل حتمية قيام دولة فلسطينية وأن تبلغ الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية باستعدادها للتفاوض على اتفاق سلام مع الفلسطينيين في الضفة الغربية على أساس حل الدولتين. ولا أتوقع أن تكون الحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة نتنياهو راغبة أو قادرة على تغيير توجهاتها وتحقيق مثل هذه القفزة العملاقة إلى الأمام. ومع ذلك، ربما عاجلاً وليس آجلاً، سوف تنشأ حكومة جديدة في إسرائيل وسلطة فلسطينية جديدة في الضفة الغربية. ينبغي عليهم البدء في الانخراط، تحت رعاية الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، في عملية سلام مصحوبة منذ البداية بعملية مصالحة على الصعيدين، أي من حكومة لحكومة ومن شعب لشعب للتخفيف من الكراهية وانعدام الثقة السائد بين الجانبين. إن التوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي – فلسطيني في الضفة الغربية الذي من شأنه أن يؤدي إلى تحسّن كبير في مستويات معيشة السكان والشعور المتنامي بالأمن، سوف يكون السلاح الأقوى ضد حماس. وسوف يكون لزاماً على حماس أن تختار بين الإنضمام إلى عملية السلام من خلال الاعتراف أولاً بحق إسرائيل في الوجود، أو البقاء تحت الحصار. وسوف يدرك الفلسطينيون في غزة جيداً المصير المتغير لصالح إخوانهم في الضفة الغربية ولن يقبلوا باستمرار حياة اليأس والقنوط في غزة. وبما أن حماس تكون هاربة ومواردها مستنزفة لتقديم ما يحتاجه الناس، سوف تتعرض لضغوط شديدة لتغيير اتجاهها، وإلا فإنها ستواجه غضب الناس. وادعاء حماس بأن الإسرائيليين هم السبب في معاناتهم لن يكون له صدى بعد الآن. وفي التحليل النهائي، فإن إنشاء دولة فلسطينية مستقلة سوف يتعزز ويستمر سلمياً من خلال إنشاء اتحاد كونفدرالي إسرائيلي – فلسطيني – أردني بمجرد إنشاء الدولة الفلسطينية.وفي الواقع، وبالنظر إلى تداخل السكان الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية والقدس وإسرائيل والأردن مع بعضهم البعض والقرب الجغرافي للدول الثلاث وارتباطهم الديني الفريد بالقدس وأمنهم القومي المتشابك، فإنهم معًا لا يجعلون ذلك ممكنًا فحسب، بل ضروريًا أيضًا لإنشاء مثل هذا الاتحاد حيث ستتعاون الدول الثلاث في مجموعة من القضايا لخدمة مصالحها الوطنية. سيقول البعض إن هذا اقتراح ساذج بشكل صارخ، وعلى أي حال، هذا هو الوقت غير المناسب للحديث عن حل الدولتين. وسواء كنت ساذجًا أم لا، أتحدى أي شخص أن يقول لي ما هو الطريق إلى الأمام؟ ما هو البديل؟ وإلى أين تتجه إسرائيل من هنا؟ إن المشكلة الفلسطينية لن تختفي ببساطة؛ إنهم لن يذهبوا إلى أي مكان، وهم اليوم أكثر تصميماً من أي وقت مضى على تحرير أنفسهم من الاحتلال. ويحظى سعيهم إلى إقامة دولة بدعم من المجتمع الدولي بأكمله، بما في ذلك الولايات المتحدة. والمأساة التي تتكشف وعواقبها المروعة التي لا مفر منها جعلت الحاجة إلى حلّ أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. وإذا لم يكن الآن، فمتى؟ ثالثاً، يشكل وضع وتطوير برنامج تنمية اقتصادية رئيسي أهمية بالغة للحفاظ على أي سلام إسرائيلي – فلسطيني في الضفة الغربية. والمطلوب الآن هو أشبه بخطة مارشال للضفة الغربية، على أن يتم تمويلها من قِبَل دول الخليج والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وينبغي أن يكون مثل هذا البرنامج في قلب عملية السلام لتخفيف معاناة الشعب من محنتهم الاقتصادية. الضفة الغربية في حاجة ماسة إلى بنية تحتية ومدارس ومستشفيات أفضل. ومن شأن مثل هذه المشاريع الوطنية أن توفر فرص عمل لعشرات الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل. علاوة على ذلك، وبما أن اللاجئين الفلسطينيين لعبوا وما زالوا يلعبون دوراً رئيسياً في البحث عن حلّ للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، فلابد من إيجاد حل للاجئين الفلسطينيين على أساس إعادة التوطين و/أو التعويض. وحلّ هذه القضية وغيرها من القضايا المتصارع عليها، بما في ذلك مستقبل القدس، التي أعاقت مفاوضات السلام في الماضي وما زالت قضايا خلافية، يمكن بل ويجب حلها في الواقع. إن حتمية التعايش والحاجة التي لا مفر منها إلى اتفاق سلام على أساس حل الدولتين، إلى جانب التزام الحكومة الإسرائيلية الجديدة والسلطة الفلسطينية وتصميم الولايات المتحدة على تحقيق هذه الغاية، من شأنه أن يسهّل حلّ هذه القضايا المختلف عليها مهما بدت مستعصية على الحلّ في هذه المرحلة. رابعاً، ينبغي للمملكة العربية السعودية أن تلعب دوراً واجهياً ومركزياً بناءً على طلب الولايات المتحدة. ينبغي على المملكة العربية السعودية التي كانت تتفاوض حول تطبيع العلاقات مع إسرائيل خلف الكواليس، والتي ربطت التطبيع بإنشاء مسار من شأنه أن يحل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، أن تعلن ذلك جهارا بمجرد انتهاء الحرب. وهذا لن يؤكد للفلسطينيين أنه لن يتم التخلي عنهم فحسب، بل سيرسل أيضًا رسالة واضحة إلى الإسرائيليين مفادها أن لديهم الآن فرصة تاريخية ليس فقط لإنهاء الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، بل لفتح الباب على مصراعيه أمام تطبيع العلاقات بين إسرائيل وجزء كبير من العالم الإسلامي. ويدرك السعوديون وكل دولة عربية في المنطقة أنه ما دام لا يوجد حلّ للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، فإن عدم الإستقرار سوف يستمر في زعزعة المنطقة، مما يجعل تطبيع العلاقات مع إسرائيل هشا في أحسن الأحوال. علاوة على ذلك، يتعين على إسرائيل أن تتذكر أنه بغض النظر عن مشاعر السعوديين والدول العربية الأخرى تجاه الفلسطينيين، فإن أي مواجهة عنيفة بين إسرائيل والفلسطينيين، كما يتبيّن في المواجهة الحالية، سوف تقف دائما إلى جانب الفلسطينيين. ورغم أن الحرب بين إسرائيل وحماس بدأت بسبب المذبحة المروعة التي ارتكبتها حماس ضدّ الإسرائيليين، فإن الرأي العام العربي في مختلف أنحاء المنطقة وخارجها يتعاطف مع الفلسطينيين. إن مقتل الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء في غزة هو الذي يتصدر عناوين الأخبار الآن، وليس المذبحة المروعة التي لا توصف بحق الإسرائيليين. وبالتالي، كلما زاد عدد الضحايا والدمار الذي يلحق بغزة، كلما أصبح من الصعب على السعوديين استئناف المفاوضات حول تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ومن الممكن أن يكون التطبيع بمثابة قناة للسلام الإسرائيلي -الفلسطيني الذي سيتم تأجيله لسنوات إذا لم يتم فقدانه بالكامل ما لم تفكر إسرائيل بعناية في ما سيحدث بعد ذلك إذا خرجت الحرب عن نطاق السيطرة تمامًا. ولكن مرة أخرى، الأمر متروك لإسرائيل والولايات المتحدة – التي سيكون لها رأي في هذه المسألة لأن إسرائيل اليوم لا تستطيع ببساطة أن تقول لا للولايات المتحدة – لضمان ألا تؤدي الحرب إلى شل فرصة التطبيع بين إسرائيل والدول العربية الأخرى. خامساً، يجب على الولايات المتحدة الآن أن تحوّل ولاءها الكلامي حول فكرة حلّ الدولتين إلى أفعال. لقد أظهرت الإدارات الأميركية المتعاقبة دعماً ثابتاً لإسرائيل، وأصبحت الولايات المتحدة الضامن الفعلي للأمن القومي الإسرائيلي. ومع ذلك، لم يُظهر أي رئيس أميركي بالقول والفعل التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل وازدهارها أكثر من الرئيس بايدن. إن زيارته لإسرائيل في لحظة حزن وألم ومعاناة وطنية غير مسبوقة، وإرساله قوات أميركية هائلة إلى المنطقة، بما في ذلك حاملتي طائرات لردع أعداء إسرائيل اللدودين ومنع تصعيد الحرب، أرسلت رسالة لا لبس فيها لإيران وحزب الله. ورغم أن إسرائيل تتلقى سنويا 3.8 مليار دولار من المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة، إلا أن إسرائيل لم تجد نفسها في أي وقت من الأوقات في الذاكرة الحديثة معتمدة على الولايات المتحدة للحصول على مساعدات عسكرية إضافية ودعم سياسي، فضلا عن المساعدات المالية. وتصريح وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير في وقت سابق من هذا العام بأن إسرائيل “ليست نجمة أخرى على العلم الأميركي. ونحن دولة ديمقراطية وأتوقع أن يفهم الرئيس الأميركي ذلك”، ليس أقل غباءً من رئيسه نتنياهو، الذي صرح في وقت سابق من هذا العام بأن “إسرائيل دولة ذات سيادة وتتخذ قراراتها بإرادة شعبها وليس على أساس الضغوط من الخارج، بما في ذلك من أفضل الأصدقاء”.والآن تدرك الحكومة الإسرائيلية مدى أهمية أميركا، مما يجبرها على الاستماع بعناية إلى ما يوصي به الرئيس بايدن الذي من الواضح أنه ضد شن غزو بري واسع النطاق دون دراسة جادة لما سيأتي بعد ذلك، والذي سيكون كارثيًا بأي حال من الأحوال. وهكذا، أصبح الرئيس بايدن الآن في وضع يسمح له، أكثر من أي من أسلافه، بممارسة تأثير كبير على إسرائيل. ليس هناك وقت أفضل للولايات المتحدة لصياغة خطة من شأنها أن تبدأ عملية السلام وتلتزم بها بغض النظر عما يحدث على الأرض. ومن خلال تزويد إسرائيل بكل ما تحتاج إليه لحماية نفسها والحفاظ على التفوق العسكري على خصومها وحتى تتمكن الآن من تحقيق النصر في هذه الحرب، تصبح الولايات المتحدة متواطئة مع سلوك إسرائيل في غزة. وينطبق هذا أيضًا على احتلال الضفة الغربية، وهو ما يتعارض مع الموقف الرسمي للولايات المتحدة. ولذلك، ينبغي على الولايات المتحدة أن توضح لإسرائيل أنه نظرا للدعم الأميركي الذي لا يتزعزع، فإنه يُنظر إليها على أنها طرف في الاحتلال الذي يجب أن ينتهي، وبذلك يتم وضع حد لحلقة العنف المفرغة التي تستهلك الجانبين منذ 75 عاما. وبالتالي، فقد حان الوقت لإدارة بايدن لترجمة الكلام الذي دأبت الولايات المتحدة على التشدّق به عادة بشأن حل الدولتين إلى خطة عمل. ولدى عودته من إسرائيل، أكد الرئيس بايدن أن حلّ الدولتين هو الخيار الواقعي الوحيد. ومهما بدا هذا الأمر بعيد المنال بالنسبة للإسرائيليين والفلسطينيين في هذه المرحلة، يجب على الرئيس بايدن أن يبدأ في الضغط على هذه القضية وتمهيد الطريق لمفاوضات جادة، وإن كان عليه انتظار إبعاد نتنياهو عن المشهد السياسي، وهو ما قد يحدث عاجلا. الخاتمة لقد حدثت المذبحة المروعة التي لا يمكن تصورها بحق الإسرائيليين خلال فترة ولاية الحكومة الأكثر تطرفًا وفسادًا ومسيانيّة ووهما قاتلا في تاريخ إسرائيل. نتنياهو، تلك الشخصية المنغمسة فقط في شؤونها الذاتية وتتفوق في قدرتها على التواطؤ والتآمر، هو جبان لا يعرف تشبثه بالسلطة حدودا. لقد فقد شرعيته لقيادة البلاد في ساعة أزمة لا مثيل لها ساهم فيها بسبب تقصيره في أداء الواجب وسياساته المضللة والعمى الذي عجل بكارثة وطنية غير مسبوقة. على الإسرائيليين أن يطالبوا نتنياهو بالاستقالة الآن لمنعه من المبادرة أو التأثير على أي استراتيجية في إدارة الحرب ضد حماس. فهو سيفعل أي شيء، مهما كان شريراً وغريباً، للتغطية على أخطائه الكارثية التي أدت إلى كارثة لم تشهدها إسرائيل منذ قيامها. وباعتباره المهندس الذي عمل على تشكيل معالم الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، يجب عليه أن يجيب الآن على السؤال البسيط: هل إسرائيل اليوم أفضل حالاً في علاقاتها مع الفلسطينيين مما كانت عليه قبل خمسة عشر عاماً؟ الجواب هو لا بشكل واضح. نتنياهو يشكل خطرا أكبر على إسرائيل من حماس. من الممكن أن يؤدي انهيار الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني إلى تحقيق اختراق تاريخي للتوصل أخيراً إلى اتفاق سلام. ليست هناك حاجة لموت طفل إسرائيلي أو فلسطيني آخر على مذبح القيادة المضللة على كلا الجانبين. يتعيّن على الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني أن ينهضا في انسجام تام وينزلا إلى الشوارع بمئات الآلاف ويصرخا: كفى!
مشاركة :