الهجوم الذي شنّته كتائب عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة حماس، على الكيان الصهيوني يوم 7 الشهر الماضي أكتوبر وردّت عليه إسرائيل بحربٍ شاملة على قطاع غزّة، لن يكون آخر جولات الصراع المسلح مع هذا الكيان، لكنه يشكل أهم نقطة تحوّل في مسيرة هذا الصراع على مدى خمسة عقود على الأقل، فقد تصوّر بعضهم، عقب جولة القتال التي خاضها الجيشان المصري والسوري ضد هذا الكيان يوم 6 أكتوبر عام 1973، أن الإنجاز العسكري الذي حققته الدول العربية خلالها يكفي لإقناع إسرائيل بالتخلّي عن أحلامها التوسّعية والدخول في مفاوضات جادة لتسوية سياسية متوازنة، تفضي إلى انسحابها من كل الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967، وإقامة دولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس الشرقية، وحل مشكلة اللاجئين وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 149 لسنة 1948، غير أن الرئيس أنور السادات تبنّى عقب هذه الجولة استراتيجية تفاوضية غير متوقّعة، أفضت به إلى طريقٍ قاده إلى زيارة القدس المحتلة عام 1977، ثم إلى التوقيع على اتفاقيتي كامب ديفيد عام 1978، ثم معاهدة سلام منفصلة مع إسرائيل في مارس 1979، ما أدّى إلى ردود فعل عربية غاضبة، جرى في سياقها نقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس، وقطع معظم الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية مع مصر، وتشكيل جبهة عربية مناهضة للنهج الساداتي، أطلقت على نفسها اسم «جبهة الصمود والتصدّي». وقد تصور بعضهم أن تشكيل هذه الجبهة قد يؤدّي إلى ملء الفراغ الذي تركه خروج مصر من معادلة الصراع العسكري مع إسرائيل، وربما إلى إفشال النهج الذي سلكه الرئيس السادات، وهو ما لم يتحقّق، فقد هبّ على المنطقة في تلك الفترة إعصار سياسي كانت له تداعيات قلبت كل الحسابات والمعادلات فيها رأسا على عقب، وهو اندلاع ثورة إسلامية في إيران في بداية عام 1979. ومن المفارقات أنه في اللحظة التي كان فيها السادات يوقع في واشنطن على معاهدة سلام منفصلة مع إسرائيل، كانت الثورة الإسلامية في إيران تثبت أقدامها، وكان ياسر عرفات يرفع علم فلسطين على مقر السفارة الإسرائيلية في طهران، بعد طرد السفير الإسرائيلي منها، وتسليم مبناها إلى منظمة التحرير الفلسطينية. لقد بدت المنطقة بأسرها حينئذ وكأنها على وشك الولوج إلى حالة استقطابية حادّة بين معسكرين، أحدهما يهرول نحو التسوية، حتى ولو بالشروط الإسرائيلية والأمريكية، والآخر يطالب برفض مشروع الهيمنة الأمريكي الصهيوني على المنطقة. صحيح أن معسكر المقاومة بدا في ذلك الوقت ضعيفا ومعزولا نسبيا، خصوصا بعد دخول العراق في حربٍ مع إيران وانحياز دول الخليج العربي إليه، غير أن هذا الانقسام أدّى إلى انهيار جبهة الصمود والتصدّي، وأسهم في فكّ الحصار حول مصر، ما عمّق الانطباع لدى معظم الدول العربية بأن إيران الثورة أصبحت خطرا يفوق خطر المشروع الصهيوني نفسه، وتلك كلها عوامل ساعدت إيران، ليس على تغليب البعد الإسلامي في الصراع مع إسرائيل على حساب البعد العربي فحسب، وإنما أيضا فتحت أمامها أيضا طريقا لقيادة معسكر المقاومة أو الممانعة في المنطقة، وهو ما ظهر جليا في أعقاب اجتياح إسرائيل بيروت يوم 6 يونيو/ حزيران عام 1982، أي بعد شهور قليلة من اغتيال الرئيس السادات في 6 أكتوبر 1981. ففي أعقاب هذا الاجتياح، قرّرت إيران المساهمة في تأسيس «حزب الله»، والذي سرعان ما برز أحد أعمدة المقاومة في المنطقة، وأصبح تدريجيا أحد أهم اللاعبين المؤثرين على الساحتين السياسية والعسكرية، فقد أسهم في إفشال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، حين شارك في تدمير مقر القوات الأمريكية والفرنسية، وأجبرها على الرحيل من لبنان، ونظم المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، وتولى قيادتها، إلى أن تمكن عام 2000 من تحرير الجنوب. لم يكن من قبيل المصادفة أن يشكل عام 2000 انعطافة كبرى في مسيرة الصراع على المنطقة وفيها، تفضي إلى ترجيح النهج الذي يتبناه معسكر المقاومة على النهج الذي يتبنّاه معسكر التسوية. ففي ذلك العام، أدرك الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، خصوصا بعد فشل قمّة كامب ديفيد التي شارك فيها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، وأشرف عليها الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، إن اتفاقية أوسلو وصلت إلى طريق مسدود. وفي ذلك العام أيضا، ازدادت فصائل المقاومة الفلسطينية اقتناعا بأن المقاومة المسلحة الطريق الوحيد لتمكين الشعب الفلسطيني من نيل حقوقه المشروعة، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة.. لم يكن «طوفان الأقصى»، بتوقيت حدوثه وبحجم ما أنجزه وبحكم السياقات، المحلي والإقليمي والدولي، الذي جرى فيه، عملية تقليدية بأي معنى. فمن حيث التوقيت، جرت هذه العملية في وقت كانت فيه معظم الدول العربية يتراجع اهتمامها بالقضية الفلسطينية، وتراجعت مركزية المبادرة التي كانت قمّة بيروت العربية قد تبنّتها بالإجماع عام 2002. ومن حيث الإنجاز، نجحت «حماس» في إلحاق هزيمة مدهشة بالجيش الإسرائيلي، يرى بعضهم أنها لا تقلّ تأثيرا عن الهزيمة التي لحقت بالجيوش العربية عام 1967. ومن حيث السياق المحلي والإقليمي والدولي الذي وقعت فيه، يُلاحظ أن «طوفان الأقصى» وقعت في ظل أكثر الحكومات تطرّفا وعنصرية واستفزازا في تاريخ إسرائيل، وفي ظل انهيار تام للنظام الإقليمي العربي، وفي وقتٍ يمرّ فيه النظام الدولي بحالة سيولة غير مسبوقة، تبدو فيها الولايات المتحدة تائهةً وعاجزة عن إدراك عمق ما يمر به هذا النظام من تحوّلات، غير أن أهم ما اتّسمت به عملية «طوفان الأقصى» أنها من إبداع فصيل واحد من فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، فحركة حماس هي التي وضعت خطة الخداع الاستراتيجي التي أذهلت العالم، وأجبرت أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية على التواري خجلا، وهي التي اقتحمت، وبأكثر الأدوات بساطة وبدائية، السور العازل الذي شيدت إسرائيل فوقه وفي كل جنباته أرقى منصّات الرصد والاستشعار عن بعد وأكثرها تطوّرا، وهي التي تولت تنفيذ الشقّ الأكبر من عملية الهجوم المباغت الذي تمكنت فيه من السيطرة على عدة معسكرات ومستوطنات إسرائيلية، وبأكبر قدر من المهنية والاحترافية، ونجحت في قتل وأسر المئات من العسكريين والمستوطنين في ست ساعات فقط. لذا يمكن القول، بكل ثقة، إنه لن يكون في مقدور إسرائيل أبدا التقليل من دلالة ما حدث أو الحطّ من شأنه أو من تأثيره على مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي في المستقبل، مهما بلغ حجم الشطط في ردود فعلها. لقد جرف «طوفان الأقصى» في طريقه معسكر التسويات المنفردة، ودفع القضية الفلسطينية إلى صدارة جدول أعمال النظامين الدولي والإقليمي، لكنه وضع معسكر المقاومة أو الممانعة أمام اختبار صعب في الوقت نفسه، فهو يدرك يقينا أن نجاح إسرائيل في كسر الحلقة الفلسطينية سيغريها بالعمل على كسر بقية الحلقات الواحدة تلو الأخرى، ومن ثم بات عليه أن يثبت بالدليل العملي، وليس بالشعارات، أنه لن يسمح لإسرائيل مطلقا بتحقيق هذا الهدف، حتى لو تسبّب تدخله في اندلاع حرب إقليمية شاملة. { أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
مشاركة :