يستوقفني دائما الكتاب الذين يأتون إلى الأدب من اختصاصات أخرى.. فلولا عشقهم اللامتناهي للكتابة، لما أدركتهم حرفة الأدب.. وتمارا شاكر كاتبة هذه الرواية هي دكتورة صيدلانية من مواليد 1989. يستهل البيت البغدادي حكايته مع أول من بناه في عهد الملك غازي، فيبدأ برواية مذكراته، ويروي قصة سعيدة لليهودي "عزرا" صاحب البيت مع زوجته نورما وأولادهما أستر وحزقيال وأشعيا وأرميا.. سندخل في تفاصيل الحياة اليومية الدقيقة، وعادات اليهود وأعيادهم وأطباق طعامهم. قبل أن تبدأ المضايقات بعد حركة رشيد عالي الكيلاني، فيحدث الفرهود، وتندلع الاضطرابات التي تهدد وجود اليهود في العراق، فيقول عزرا لزوجته "نحن عرب قبل أن نكون يهودا، لا تخافي العراق وطننا الوحيد ولن تزعزع أية أزمة سياسية موقعنا". هنا تقدم الرواية رؤية يغفلها كثيرون عن السبب الحقيقي لهذه الحادثة، وهي أن اليهود خرجوا في يوم دحر حركة مايس، بشكل غير متوقع، للاحتفال بعيد شافوعوت، وزوال خطر حكومة الكيلاني المؤيدة للنازية، فواجهوا كتيبة من حركة رشيد عالي الكيلاني، وهي مهزومة، فاندلعت شرارة المصادمات، لأن الجنود ظنوهم يحتفلون فقط بهزيمتهم، وعودة بريطانيا مع الوصي للحكم. لا زلنا في الصفحات الأولى من الرواية، فالبيت سيتنقل بين عدة مالكين، بعد هجرة عزرا رغم أنفه، وسيفتح شيروان الباب، وتبدأ قصة أخرى ليست سعيدة هذه المرة. لأنه نقض العهد، وتصرف بأموال وممتلكات عزرا، التي تركها أمانة في عنقه بتوكيل عام. وكان هذا التحول موجعا للقلب، لأن شيروان، أو كاكا الحمال، قد أنكر الجميل وخان الاتفاق، وستدور الأيام دورتها، فيندفع الباب مع ضابط زوّر أوراق البيت، ليقول فتشوا أولئك الحقراء إنهم تبعية إيرانية.. ستتوالى التحولات بعد ذلك على هذا البيت البغدادي العريق، والكلام عن التحولات يعني الحديث عن ثلاث روايات في رواية واحدة، وهناك من السرد ما كان يمكن التحايل عليه، لكي تكون الغلبة لعنصر الصراع المطلوب داخل كل حكاية من حكايات البيت، لكننا منذ البداية أمام مذكرات بيت بغدادي، وهذه هي حساسية النساء تجاه التفاصيل الصغيرة، وبهذا رأت الكاتبة توثيق أدق يوميات التراث اليومي للحياة البغدادية. وأن تقدم لكل مرحلة معينة رموزها المكانية والزمانية، وأن تجعلها معبرة عن أزمنة العراق المختلفة. ستستخدم الكاتبة إشارات ذكية لتوقف ساعة الجدار بين ساكن وآخر، أو لخلع الصور من مسامير الجدران، أو الفراغ الموحش الذي يلف البيت (راوي الحكاية) أثناء انتقاله من شخص لآخر، وكذلك عندما تدور الدنيا، وتلاحق اللعنات هذا البيت، حتى مع الأسير الذي يعود من الأسر ليجد ما يجد بانتظاره. ستكون هناك هدنة بين مصيبة وأخرى، ولهذا فهو لا يزال قادرا على التعايش مع كل لمحة أمل جميلة تكون النساء في الأغلب هن صانعاتها، أو مع لمحات أخرى يكون أبطالها من الرجال الذين تنقلوا من محنة لأخرى، كسلام المولود عام 1988، والذي يحمل هوية يزين جانبها العلوي الأيسر خطا باللون الأحمر (جيش القادسية)، وكأنه منذ ولادته قد جُند مع مواليد سنته ضمن جيش مهيأ لحرب قادمة.. ماذا تعني الثمانينات أيضا؟ إنها سيارات السوبر، وكوكوش، والكثير من أغاني وتفاصيل تلك الأيام التي قلنا إنها تكفي عدة روايات في رواية واحدة. ولكن متى سيرجع سلام؟ لم يعد يملك البيت أعصابا تتحمل كل ما يجري من حوله.. تغيرتْ الشوارع.. علتْ الأبنية الإسمنتية.. تحولت حدائق البيوت إلى محلات أو بيوت صغيرة تفتقر إلى الجمال. كما غابتْ أشجار الورد والفاكهة والزيتون التي كانت تملأ الحدائق بالعبق.. هذا البيت البغدادي سيتابع كل المراحل التي مرت بها بغداد خلال سبعة عقود من الزمن.. لعله يكتشف البلسم الشافي مع كل مالك جديد.. طريق التعود صعب وشائك، ولكنه سيفعله مع كل ساكن يعيش فيه، ويجعلنا نتذكر لا أراديا ساكنه الأول الذي بناه في الكرادة "عزرا"، وكيف تشبث به ورفض مغادرته إلى إسرائيل.
مشاركة :