أجمل الكاتب والإعلامي قينان الغامدي، في هذا الحوار سيرته ومسيرته في سطور، وعبّر بصدق عن ذاتيته وموضوعيته، وكان أبو عبدالله في ذروة أناقته، ونحن نتجاذب بساط جدل المحبة من أطرافه عبر منصة (فيس تايم) التي جعلت هذه المثاقفة تفاعلية، بحكم أن ضيفي يراني وأراه، ويسمع مني، وأصغي إليه، وإليكم مجمل ما باح به (رؤساء التحرير) قينان، وهي حصيلة ستين دقيقة من الزمن؛ أزعم أني ظفرتُ من قامة وقيمة إعلامية بجديد لم يقله من قبل، وهنا نص الحوار: • أما شبعت من الكتابة، وطفشت من الظهور، بمرور هذه التجربة الطويلة نسبياً في بلاط صاحبة الجلالة؟ •• أصدقك القول لم تمرّ بي هذه الحالة، من الطفش، أو التشبع، وأعزو ذلك لسبب؛ أني متعلّق بالقراءة حد الهوس، وأعشق الكلمة، وهناك أحداث ومتغيرات، تعيدك للوراء أكثر مما تأخذك للأمام، وفي جوالي كُتب محفوظة من أعوام، وسبق لي قراءتها، لكن الأحداث التي نعيشها أعادتني لقراءتها؛ في محاولة مني لفهم ما يجري، ومن تعلّق بالقراءة والكتابة صعب يهجرها، أو يشعر أنه شبع منها، ولن أشبع حتى أنطفئ. • هل بقي عندك ما تقول؟ •• عندي كثير، بل أكثر مما أتصور وتتصور، فالملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية وطول العمر- وولي العهد الأمير محمد بن سلمان -أعزه الله- أعادا لنا حيوية وطنية، يشعر بها كبار السن قبل الشباب، وتحتّم علينا الإسهام في نجاح رؤية الوطن الطموحة، كل من موقعه وبحسب إمكاناته، ولعلمك هناك أشياء لم أعرفها، وأشياء لم أقرأها، وأشياء لم أعشها، وهذا وقتها، وكلما زادت المعرفة ووسائلها اكتشفتُ جهلي، وحاجتي لمزيد من وقت، أقرأ فيه وأتعلم وأكتب، ومع نمو المعرفة تنمو رؤى وأفكار ما كتبتها لأسباب عدة، إما أنها لم تنضج، أو أنه لم يحن وقتها، واليوم المناخ مناسب لقول ما يعتمل في النفس، وما يوجبه الانتماء لهذا الوطن العظيم، ولذا ليس في قاموسي (خلاص وقّف). • ألم تكن متعلقاً بالأضواء؟ •• مع تحفظي على (الأضواء) فطيلة تاريخي الصحفي، ما بحثتُ عن ضوء، ولا فلاشات، ولذا لم أكن حريصاً، ولا قادراً على حضور دعوات المعارف والأصدقاء والوجهاء، فالتفكير في إجادة العمل الموكل إليّ هو الهاجس الأكبر، فكلما كان انطباع القارئ عن مطبوعتنا جيّداً، فذاك مبلغنا من الطموح اليومي، واليوم سهل أن تظل تحت الأضواء، ومن المشاهير وبدون أي مشقة، وتغدو مع من منحتهم التقنية أضواء ممن هبّ ودبّ، فأصبحوا ملء السمع والبصر، والعمل الصحفي شغف وتطلّع لإشباع نهم لا يمكن إشباعه لمن (انتمى لبلاطها) فهي معشوقة أكثر من عاشقة، والشهرة ليست مطلباً ولا طموحاً منذ بدأنا العمل الصحفي، بل تفكيري في إجادة ما أعمل، وما تلي على الله كما يقول أهل الديرة. • لمن تكتب اليوم؟ •• أكتبُ لنفسي أولاً، ولمن يُحسن الظن بي معتقداً أن لديّ ما يستحق القراءة، ولو سأل أي كاتب هذا السؤال لنفسه وتفكّر فيه بعمق ممكن تنتابه هواجس تفضي به للكآبة، لكن يا (رفيقي) لا بأس من بعض حسن الظن بنفسك وبالناس. • ماذا عن سيرتك الذاتية، سبق لك أن أعلنت أنك شرعتَ في تدوينها؟ •• صحيح، ووضعت الأطر، وحضّرت الأرشيف، وخصصت المكان، ولكني وقعتُ في إشكالية، فكلما كتبتُ صفحةً وانتهيت منها، توّلد في الذهن صفحات من إضافات ومسارات، والفصل الواحد ينبعج لفصول، وأسري طول الليل ألملم؛ ولذا بدأت التفكير في تجزئتها كل مرحلة لوحدها (الطفولة، الدراسة، العمل)، وربك يسهّل الكتابة السيرية عن الذات ليست سهلةً كما يتصور البعض. • أما تخشى أن تطغى عليها النرجسية؟ •• إذا كنتُ سأكتب عن إيجابياتي فقط، دون السلبيات، فهذي نرجسية، لكن الحديث عن السلبيات يحتاج حالة من التحرر والتصالح مع النفس، فالصدق مع النفس ومع القارئ ومع من تتماس معهم السيرة ضروري، البعض يكتب سيرته بقصد إبراز الوجه الحسن، ويوهم قارئه أنه كائن معصوم بلا أخطاء ولا خطايا، نحن بشر فينا قلق ونزق وطيش وحماقة وحكمة ونصيب ونخطئ، فالسيرة الحقيقية أدب اعتراف ومكاشفة مع الذات قبل الآخرين. • كيف تعاملت مع هُوياتك المتعددة (قروي، قبيلي، مناطقي، وطني، قومي، إسلامي)؟ •• الوعي بما أنت عليه، وما تؤول إليه، بالتعلم والتجربة، لا يسلبك أي شيء من مكتسباتك، فأنا ابن القرية والقبيلة والمنطقة، ثم انتقلتُ للمدينة (الطائف) ثم جدة، ثم الرياض، وانفتحتُ على المدن، وفتحت لي أبوابها، كل ما تكتسب من خبرات يعزز تعلقك بالمنجز الأسمى وهو (الوطن السعودي) وكل الأسوياء لا تقتلهم الهويات كما يقول أمين معلوف، بل ترفع مرتبة الانتماء والولاء وتشعرك بقيمة الحياة في وطن آمن ومستقر ومتمدن، ولذا لم أكن متعصباً إلا لوطني، وبقية الهويات شكلانية خدمت الجوهر. • كيف داويت الحنين للقرية ثم لبقية المواقع والأشخاص؟ •• أنا ما عندي حنين، سكنت القرية، وانتقلت للطائف، وما حسيت لا بغربة ولا حنين، ربما لأن طفولتي ليست سعيدة كما يظن البعض، وربما لرحيل أمّي مبكراً، وأنا كائن متنقل أؤمن أن غداً أفضل، والقادم أجمل، والحركة أنفع من الركود، والتغيّر خير من الثبات، بما فيها تحوّل الفكر وتطور الثقافة، فالجماد فقط ربما يبقى على ما هو عليه. • بصدق من أتعبك؟ وكم نسبة حضور الحظ في حياتك؟ •• بصدق أنا تعّبت نفسي، وربما تسببت في متاعب لآخرين ما لهم أي ذنب إلا قربي أو صداقتي أو معرفتهم لي، أما الحظ فلا أؤمن به؛ لكل مجتهد نصيب. • ما هو سبب المتاعب، حسد، غيرة، ترصّد أم نقاط ضعف؟ •• نقاط ضعف وعيتُ بها أكثر الآن؛ ففي العمل الصحفي، كنت مستشرفاً المستقبل، وأحاول قفز الحواجز بحسب اللياقة ومستوى الحاجز، لكني وبصدق وتجرد؛ لم أسمح لأيّ كاتب أو زميل أو لنفسي بالمساس بالعقيدة الوسطية، والوحدة الوطنية، والأسرة السعودية الحاكمة، فآل سعود هم ضمان للعقيدة وللوحدة الوطنية، وما دون هذه الثوابت (كانت المتاعب) لأني عاشق للحراك والتفاعل، فبها حياة المجتمعات والأمم تدافع وتحاور وهذا مكفول بنظام الدولة، لكن تراجع بعض الرصيفات من المطبوعات؛ يظهر أنك متقدم أكثر أو متجاوز الحدّ بحسب تقييم بعض المنافسين ومن هنا تتوقع المتاعب، لكن الصحافة ميدانها الرحب، سموها (مهنة متاعب). • متى ساورك الندم؟ ومن تحمّله مسؤولية متاعبك؟ •• لا أنا نادم، ولا أحمّل أي مخلوق أدنى مسؤولية، أنا المسؤول أمام الله وخلق الله، وإن كان ودك أجهر بها من فوق المسيد (المسجد) على طريقة (البدوة) في سوق خميس الباحة. • لو دعيت للعودة للصحافة هل تقبل بالعودة؟ •• أقبل إذا كانت صحيفة إلكترونية ومكتملة البنية الرقمية؛ فإعلامنا بحسب ما أرى لم يبلغ مستوى المنصات العالمية في تناول منجزاتنا، والتفاعل مع رؤية المملكة التي تستحق المزيد من العناء المهني لإبرازها وتقديم الرؤية الطموح بموضوعية واعتزاز أيضاً. • هل يقود الإعلام السياسات؟ •• الإعلام والصحافة يمهّدان ويبشّران وتساند التوجه العام للدولة وتكتب قصص النجاح لترفد التجربة، وتعزز دور القائم على العمل السياسي، وتُنصف المرحلة، فمرحلة سعوديتنا اليوم تستحق الإنصاف. • من أنهك الصحف؟ •• ربما نظام المؤسسات الصحفية، وربما كون مجالس إداراتها تتكون من رجال أعمال لا رجال مهنة، والأرجح أن البعض لم يستشرف المستقبل فورّط صحيفته، فالاستثمار من الأرباح عزز مواقع صحف لعقود قادمة دون أي قلق. • ما مأخذك على استقطاب رجال الأعمال في مجالس الإدارة؟ •• ليس مأخذاً، لكن حسبتهم تختلف عن حسبة الصحفي، وكان هناك عضو مجلس إدارة متخصص في استيراد الصلصة والشطة، فقال لي مرة، ترى الصحافة زيها زي الصلصة، أهم شيء الطعم مستساغ. • ألا تتبرم من اكتساح المشاهير للسوق والمتسوّق؟ •• أبداً.. هناك ظواهر سرعان ما تختفي، وما عندي حساسية ممن يسمي نفسه شاعراً أو إعلامياً أو أديباً، فالزمن والوعي يكشف الأصلي من المزيّف. • ما حجم تأثيرهم على المهنية؟ •• المهنية بخير ولا قلق في ظل بزوغ مواهب، وحضور المخضرمين، نتمنى تتاح لهم الفرص ويتم استقطابهم. • أي إعلان يجذبك الصحفي أم التواصلي؟ •• هناك إعلانات لها ثقلها وتحتاج منصة إعلامية راقية يثق بها المستهدف بالإعلان، وهناك إعلان (تيك أوي) يمشي في أي موقع، وأذكر الراحل حسين قزاز قال لي عندما ذهبت لأطلب إعلانات للوطن؛ امنحني فرصة، أتابع صحيفتكم في السوق، فأنا أقف كل صباح أمام البقالات التي تبيع صحفاً، وأحصي في الصباح النسخ، وأعود وأحصي الباقي معروضاً في المساء، لأعرف الأكثر مبيعاً وأعلن معاه. • متى بدأ صراعك مع الإسلام السياسي، ولماذا لم ينته؟ •• بدأ أولاً مع التطرف، في بعض المؤسسات التعليمية، وكان للدكتور إبراهيم الفوزان فضل كبير في تفتيح وعينا المبكر، ثم انتبهتُ لتوظيف الإسلامويين للشعارات، عندما اقتحم جهيمان الحرم المكي، عام ١٤٠٠هـ، ثم جاءت أزمة الخليج واحتلال صدام للكويت، فكشّر الإسلامويون عن أنيابهم، وتطاولوا على الجميع، ولن تنتهي ما داموا لا زالوا يريدون تخريب المجتمعات الآمنة بتوظيف الدِّين لخدمة طموحاتهم الواهمة. • أي المدارس الصحفية نجحت عندنا؟ •• كان هناك مدرسة مصريّة، ثم لبنانية مع الحياة والشرق الأوسط؛ ولكن الذي نجح المدرسة الصحفية السعودية، «عكاظ» اليوم مدرسة، و«الوطن»، و«الشرق» وكذلك «مكة». • أما زلت ترتاد المقهى؟ •• رحم الله الدكتور عبدالله مناع، فهو من سحب رجلي للمقهى بحكم دراسته في مصر، واجتماعه واستماعه للنخب في مقاهيها، ولا زلت ألتقي كل أسبوع مع ثلاثة أصدقاء من مشارب وتيارات متنوعة. • ماذا عن الصالونات الأدبية؟ •• ما عادت أدبية، هي مجتمع سواليف. • من هو شاعرك الأثير؟ •• متعلق بشعراء المعلقات والعصور المتقدمة، وفي التواصل أذهلني شعراء شباب مدهشون. • لمن تسمع من المطربين؟ •• أنا طلالي، فطلال مداح رحمه الله كأنه تعمّد أن يبقى هو وكاتب كلماته إلى اليوم، أسمع (وطني الحبيب) كأنها انكتبت وتلحنت وتغنت اليوم. • ما تخشى يغضب عليك الفنان محمد عبده؟ •• ما راح يزعل محمد عبده لأنه فنّان كبير، ويؤمن بتعدد الذائقة، و«فوق هام السحب» أجمل ما تسمع في مناسبات الوطن. • من تشجع من الأندية؟ •• ميولي أهلاوية وأنبذ التعصب وأخجل من مهاترات مشجعين ومتابعين وإعلاميين، خصوصاً وهم يؤمنون أن الرياضة روح لكنهم لا يتمتعون بهذه الروح الرياضية.
مشاركة :