تجمع المخرجة المغربية جميلة عناب في فيلمها “بيت الحجبة” بين الواقع والخيال، بين التوثيق والرواية، لتصور قصصا من أعماق المدن والثقافة المغربية. وهي في هذا الحوار مع “العرب” تحكي لن عن أهمية السينما والمهرجانات السينمائية موضحة الأسلوب الذي تنتهجه في فيلمها. تقول المخرجة جميلة عناب عن المهرجانات السينمائية إن المشاركة ضمن إحدى مسابقاتها تعطي للعمل السينمائي قيمة واعترافا، ناهيك عن عرضه بحضور قامات فنية نقدية وسينمائية تغني النقاش حول الأفلام، وتنير بعض جوانبها من زاوية الشكل والمضمون، و”أنا أحاول اقتناص علاقة الطرح الفني الذي يقترحه الفيلم من خلال تعدد القراءات واختلاف وجهات النظر”. وفي حوار مع صحيفة “العرب” تشاركنا المخرجة فكرة تصوير فيلمها “بيت الحجبة” فتقول “في تقاليد تاكناويت وعاداتها وثقافتها، ‘المعلم الحقيقي’ هو من يصنع آلته بيده، ولا يعزف على آلة أخرى صنعها غيره. ذلك لأن ‘السنتير’ يعتبر كائنا له شخصية مستقلة وكاملة، فضلا عن كونه وحدة موسيقية ذكية ومتعددة الأبعاد، بل إنه أكثر من هذا وذاك يعتبر امتدادًا لصاحبه المعلم؛ فهما مترابطان ماديا وروحيا، ويعملان معا لكي تتحقق تاكناويت أثناء الحدث الكناوي الكبير (الليلة). إنه لمن المستحيل عدم الانتباه إلى ذلك الاتحاد المذهل بين السنتير والمعلم زعيم هذه الروحانية. وهذا هو الأمر الذي جذبني إلى كتابة هذا الفيلم بلغة خاصة مشبعة بروح تاكناويت”. وعن الرسالة أو القضايا التي كانت ترغب في تمريرها من خلال تقديم القصة على شكل فيلم وثائقي توضح المخرجة المغربية “صراحة لا أميل إلى الطرح الرسالي أو الخطابي أو التعليمي. فالسينما بالنسبة إليّ هي أولا فن تعبيري يسائلني من الداخل، ويتيح لي السفر إلى مناطق أخرى من ذاتي، ولهذا فإنني لا أبحث في الفيلم عن الجانب الخطابي والرسالي، بقدر ما أجد ضالتي في ما يحققه الفيلم من متعة سينمائية، سواء أكانت عاطفية أم فكرية أم غيرها. إن السينما، في العمق، قوة فنية تعبيرية بمضامين إنسانية كونية تتجاوز الرسالة إلى أشياء أكثر عمقا وتأثيرا”. في الفيلم لا أبحث عن الجانب الخطابي والرسالي، بقدر ما أجد ضالتي في ما يحققه الفيلم من متعة سينمائية للمتفرج كما نوهت بأسلوب المعلم الكناوي مع آلة السنتير إذ قالت “تبدأ قصة فيلم ‘بيت الحجبة’ بتعرض سنتير المْعَلم ‘الصديق’ للتلف، فيقوم بحرقه وسط الغابة بعيدا عن أعين الناس. هذا الحرق هو بمثابة إكرام واحترام للسنتير، حتى لا يتلاشى أو يُنسى بعدما أصبح عاجزا عن العمل والتفاعل مع المعلم أثناء الليلة، وهو ما نصل إليه في نهاية الفيلم. يمر ميلاد السنتير بثلاث مراحل أساسية هي: مرحلة الصنع ثم مرحلة الحجبة فمرحلة الولادة الحقيقية. وتقوم المرحلة الأولى على اختيار كل المكونات بعناية كبيرة، بدءا من جلد عنق الناقة وأمعاء الماعز، ثم قِطَع الخشب التي يأتي بها من شجرة غير مثمرة”. وتتابع “أثناء هذه المرحلة، يتوقف المعلم متفقدا آلته، يتحسسها ويشعر بها وكأنها امتداده أو طفله. وبعد اكتمال صنعها، تبدأ المرحلة الثانية، إذ يقوم المعلم بتبخيرها وحجبها لمدة سبعة أيام في مكان مظلم يسمّى ‘بيت الحجبة’ في انتظار موعد الليلة، أي المرحلة الثالثة. خلال مرحلة الحجبة هاته لا يمكن لآلة السنتير أن يراها أيّ كان عدا المعلم، حتى لا يتم تدنيسها وعرقلة تكوينها الروحي. فالحجبة هي المرحلة الأساس لتكوين السنتير روحيا، وجعله قادرا على استمالة ‘الأرواح’ و’الملوك’ أثناء الليلة، ولذا، يتردد المعلم “الصديق” في كل مرة على مكان الحجبة للعزف على الآلة وملئها بالمقامات الكناوية حسب مدارجها، ولا يمكن لأيّ كان اقتحام هذا المكان عدا المعلم، وإلا فإن الامتلاء سيفسد، وستهرب الأرواح من بيت الحجبة”. وتوضح “إن العلاقة بين المعلم وآلته لا تبنى على أساس مادي، بل هي علاقة وجدانية عميقة، تجعل المعلم يتنظر تحقيق ميلاد السنتير وكينونته الكناوية طوال الفيلم”. وتشرح المخرجة المغربية لـ”العرب” أنها سعت لـ”بناء الكيمياء بين الممثلين لجعل العلاقة بين المعلم والسنتير مصدرًا للجذب والتأثير على الجمهور.. إذ لم أستعن بممثلين أثناء تصوير ‘الليلة’، الكل كان مرحبا به ممن يستهويهم الحال وموسيقى كناوة، بل كان الرهان الأكبر الذي يرافق ‘الصديق’ هو إمكانية تحقيق الامتداد بينه وبين السنتير لاستحضار ‘المْلوك’ والتأثير على الحاضرين، وبالتالي تحقُق ‘الليلة’، التي لم تكتمل مع الأسف وسكت السنتير عن الكلام، كما لاحظنا في نهاية الفيلم”. وتقول عناب إن “الدور الذي لعبه التصوير والإخراج في توجيه الانتباه إلى تفاصيل تلك العلاقة الفريدة بين الشخصيتين، كان دورا مهما، لكن قبل الحديث عن التصوير، أود الإشارة إلى الكتابة القبلية. فالاندماج، بين شخصيتي المعلم وآلته، الذي لا يمكنه أن يتحقق إلا حين تصبح الآلة كائنا حيا يتمتع بالتوقير والاحترام والقدسية، وذلك من خلال الخضوع إلى طقس التحول أو العبور من كائن جامد إلى كائن حي”. pp وتواصل “هذا هو الهاجس الذي رافقني لأكتب سيناريو هذا الفيلم، كما أنه هو الذي قادني كذلك إلى التفكير في ‘أفلمة’ هذا السيناريو، عبر صوغ هدا الاندماج في قالب تسجيلي – حكائي، يتجاذبه مساران: الأول توثيقي والثاني تخييلي. التوثيقي يمثل المسار الذي يقطعه صنع آلة السنتير حتى يتحقق الاندماج بينه وبين المعلم الكناوي (الموسيقي)، ثم المسار التخييلي، وهو عالم مواز للعالم الأول، وتمثله ‘تودا’ الحامل بالكائن المحجوب والميمون، الذي يعتبر على المستوى الرمزي، داخل الفيلم، معادلا موضوعيا لآلة السنتير، فالآلة تتعرض للحجب في مكان مظلم، والجنين أيضا يُحجب داخل الرحم، وكلاهما يشهدان عقيقتهما في اليوم السابع”. وتحكي المخرجة عن أسلوبها لـ”العرب” فتقول “أوليت الاهتمام، على مستوى الكتابة، أثناء التصوير وأثناء المونتاج، لثلاثة عناصر على وجه الخصوص: الإضاءة والصوت والكاميرا. فمثلا أثناء الحجبة، لا تدخل الكاميرا بيت الحجبة المظلم، ولا تقتحم خلوته، حتى لا يفسد ويدنس، وهنا ارتأيت إيلاء أهمية كبيرة لخارج الحقل كأسلوب سردي، حيث تتم إعادة بناء حصة هذا الفضاء التخييلي من قبل المشاهد. ويكتسي عنصر الإضاءة أهمية بالغة في الكتابة، خاصة أن الموضوع مرتبط بطقوس روحانية (التطهير، الليلة، الحجبة..)، وهي طقوس تغلب عليها الحلكة أو الإضاءة الخافتة. أما عنصر الصوت فيتمثل، تعبيريا، في الصمت، والأصوات المحيطة وصوت السنتير وباقي آلات كناوة دون الاعتماد نهائيا على أيّ موسيقى أخرى خارجية”. "لا أستهدف جمهورا معينا أو فئة معينة، بل أسعى إلى إشراك المشاهد في إنتاج معنى للفيلم ودعوته إلى الانخراط فيه وجدانيا وثقافيا وفكريا" وتضيف “أعتقد أن أيّ عمل سينمائي يواجه تحديات وصعوبات في إنجازه، ففي فيلم ‘بيت الحجبة’ تمنيت لو كانت مدة التصوير أطول حتى أواكب المعلم الصديق في عوالم أخرى خاصة وطقوسية. هذا هو الوثائقي الذي يروق لي، أي أن أجمع مادة مصورة مهمة، وأشتغل على كتابتها في مرحلة المونتاج. أكيد، كنت سأحصل على مادة حكائية إضافية، مادام المعلم شخصية فريدة وتلقائية ومعطاءة. وكما أشرت سابقا، لقد اعتمدت على عنصر الصوت بشكل كبير في كتابة الفيلم، سواء أكان صمتا، أم موسيقى غير خارجية، أم أصواتا محيطة”. وتقول المخرجة أنها كانت تسعى “إلى أفلمة ما أراه وأحسه لنقله إلى عين المشاهد في شكل محكي فيلمي. إذ كنت أواكب الشخصيات بحسب تموقعها في الوسط، يمينا أو يسارا داخل الإطار الذي نراه، يبتعد الصوت بحسب ابتعادها، وبحسب دخولها أو خروجها من الحقل البصري. فالموسيقى المعتمدة في الفيلم هي التي يعزفها الشيخ السوداني أو المعلم الصديق، وكلاهما شخصيتان فاعلتان في الحدث القصصي للفيلم. كما اعتمدت الأصوات المحيطة على حساب استعمال الموسيقى في الفيلم (الميناء، أحياء مدينة الصويرة..)، واخترت اعتماد الصمت في الخرائب والمغارة والأماكن الخالية وخلوة المعلم، وهو اختيار مفكر فيه جماليا”. وتعتقد عناب أنه “من الصعب إرضاء الجماهير بكل فئاتها، هناك من يفضل نوعا فيلميا على حساب آخر، وهذا لا يزعجني، حسبي أن أقول إنني لا أستهدف جمهورا معينا أو فئة معينة، بل أسعى إلى إشراك المشاهد في إنتاج معنى للفيلم ودعوته إلى الانخراط فيه وجدانيا وثقافيا وفكريا”. وتضيف المخرجة في حوارها مع “العرب”، فهي بالتأكيد تفكر على وجه العموم في كتابة أفلام تنتصر للسينما، سواء أكانت روائية أم وثائقية، وهنا “أستشهد بمخرج إيراني أحبه هو عباس كياروستامي، الذي يتحفنا بأفلام روائية ذات طابع توثيقي، تصلنا بصدق، فتثير عواطفنا، وتخاطب الإنسان فينا. أنييس فاردا بدورها تعلمت منها الكثير، إيليا سليمان، وجوزيبي تورناتوري، وتيرانس ماليك، وبيلا تار واللائحة طويلة”.
مشاركة :