"إنت فاكر نفسك مين" أسئلة تثير أفكار اليافعين ليتعرفوا إلى أنفسهم | منى لملوم | صحيفة العرب

  • 12/4/2023
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الكتابة للأطفال تتطلب تكاملا بين الرسام والكاتب في تعاضد النص الذي يجب أن يكون دقيقا، وكذلك الرسوم التي يجب أن تكون بدورها مدروسة ومعبرة. أما ترجمة كتب الأطفال من لغة إلى أخرى فذاك تحد من نوع آخر، خاصة لو كانت الترجمة إلى العامية مثلما فعل الكاتب المصري أحمد القرملاوي مع كتاب كاثرين هيل “إنت فاكر نفسك مين”. إنت فاكر نفسك مين؟ سؤال يقوله الشخص غير الواثق بنفسه مخاطبا نفسه، أو يقوله الأشخاص غير الأسوياء الذين يرغبون في التقليل من الشخص الذي يتحدثون إليه، والحقيقة هو سؤال يحمل داخله معاول هدم الشخصية، حتى أن هذا السؤال من ضمن الأسئلة التي يسألها لنفسه الشخص المصاب بالاكتئاب، حيث أن من أعراض الاكتئاب قلة تقدير الذات والشعور بأن الشخص لم يحقق شيئا في عمره مهما كان الذي حققه ملحوظا ممن حوله ومشهودا له به، وتبرز أهمية السؤال في أنه يثير التفكير عند الإنسان وليس بالضرورة أن يصل إلى إجابة عليه. والكتاب الذي حملت ترجمته هذا السؤال، تأليف كاثرين هيل، رسوم دونج هو، ترجمة أحمد القرملاوي، والصادر عن دار ديوان للنشر في طبعته الأولى 2023، لم يتم ترقيم صفحاته على خلاف كل كتب الأطفال التي قرأتها، وربما لذلك مغزى، قد يكون الترتيب غير مهم، قد يكون لعدم التشتيت، وقد يكون للحديث مع النفس والذي يتطلب التركيز في الصورة والمعنى فقط دون تركيز على ترقيم أو ترتيب، كلها احتمالات ولكن عدم ترقيم الصفحات كان مما استوقفني في الكتاب، والذي يعتبر الترجمة الأولى لمترجمه الروائي والقاص المعروف أحمد القرملاوي في مجال أدب الناشئة. إثارة الأسئلة يتم طرح السؤال ثلاث مرات داخل الكتاب، في أول مرة يطرح فيها السؤال، تأتي معه لوحه لفتاة مكررة 3 مرات داخل المشهد، الأولى خافضة رأسها في انكسار، الثانية وقد خطت خطوة إلى الأمام تضع يدها على ذقنها في حيرة، الثالثة تنطلق إلى الأمام بخطوة واسعة واثقة لتدخل من باب الحكاية على أول مشاهد رحلة البحث والتساؤل. ◙ المترجم أحمد القرملاوي اختار اللهجة العامية المصرية عوضا عن الفصحى، ولكنه وضع النص المترجم في قالب شعري بديع ◙ المترجم أحمد القرملاوي اختار اللهجة العامية المصرية عوضا عن الفصحى، ولكنه وضع النص المترجم في قالب شعري بديع ليبدأ الكتاب وينتقل من البسيط إلى المركب، ومن الجمل القصيرة إلى الأطول، ومن أول ما يتعرف عليه الطفل وهو شكله إلى ما هو أبعد وأعمق من ذلك. يكون أول تساؤل للإجابة على السؤال الأساسي هو “إنت شعرك، ولا شكلك، ولا جسمك، ولا لبسك؟”، وهي من الأمور الأساسية التي يتعرض الأطفال للتنمر بسبب اختلافهم فيها، فيتعرض الطفل الأسمر للتنمر بناء على لونه، والطفل صاحب الشعر الكيرلي، والطفل شديد النحافة أو شديد السمنة، والطفل صاحب الأنف أو الأذن الكبيرة، والطفل الذي يرتدي نظارة، وبالطبع يشمل ذلك أي طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة. لذلك تبدأ الكاتبة بكل بساطة بهذا السؤال، لأنه ما يعتبره الطفل معبرا عنه حقا، ولذا يتأثر بشدة بأي انتقاد له فيه، لتنتقل بعده في إجابتها على السؤال بأسئلة فرعية فتسأله “هواياتك؟، اختلافاتك؟، خوفك؟، ولا عياطك؟”، فتبرز للطفل ميزاته من خلال هواياته، وتؤكد أن اختلافه تميز، ثم تنتقل إلى الخوف والبكاء، فتدمج كلاما إيجابيا بكلام سلبي، وهكذا هي الحياة الخوف والبكاء جزء منها، ولا يفرق بين الجنسين. وينتقل الكتاب في السؤال الفرعي التالي إلى “إنت الأخطاء إللي عملتها، ولا الأخطار إللي حاولتها؟”، وفي ذلك تهدئة للنفس التي يجلدها الشخص بعد كل خطأ، وكأنه يعتقد أن دروس الحياة يمكن اكتسابها دون خطأ، والحقيقة أنه إذا لم تخطئ لم تتعلم، أما الأخطار هنا فهي كل محاولة لاكتشاف شيء جديد، بما ينطوي عليه من مخاطرة، وكيف أن المخاطرة جزء من الاستكشاف. واللوحتان لهذين السؤالين جاءتا بشكل مبدع وجميل يكمل الكلمات المكتوبة بالصورة، فلوحة الأخطاء بها الفتاة نائمة مهمومة على مجموعة من الأوراق وحولها أوراق تطير في الجو، وهي الأخطاء الكثيرة التي تفكر فيها وتحمل هم ارتكابها، أما لوحة الأخطار فتصعد فيها الفتاة الشجرة لتقطف أكبر نجمة متدلية من السماء فوقها، كناية عن المخاطرة التي اكتسبت منها شيئا رائعا لم تكن لتصل إليه لولاها. وليختم الجزء الأول من الأسئلة الفرعية بالسؤالين التاليين: “إنت الحاجات إللي امتلكتها؟ ولا السنين إللي كبرتها؟”. والإنسان يحب ما يمتلك، وقد يهمله بعد امتلاكه، ولكن هل يعتبر نفسه الأشياء التي يمتلكها؟ والإجابة على كل تلك الأسئلة الفرعية للسؤال الرئيس في داخل القارئ يفترض أن تكون “لا”، فبالتأكيد هو مزيج منها بالإضافة إلى أشياء أخرى. وتأتي لوحة الحاجات التي يمتلكها الإنسان وهي مليئة بصور كلها ذكريات من أجيال مختلفة، كناية ربما عن أشياء متوارثة، أو أجيال مختلفة ضمن الفئة المستهدفة للمؤلفة، منها جراموفون، مروحة قديمة، براد شاي قديم، حبل غسيل عليه مشابك، كرسي قديم، منبه قديم، حوض سمك بداخله سمك، عصفور ولكنه خارج قفصه المفتوح، عوامة بحر، فناجين شاي كلاسيكية، رشاش ماية الزرع، سجادة مطوية، آلة كاتبة، بيانو، صندوق بريد، أباجورة، بالونات، والكثير من الكتب موزعة بين كل الحاجات. هذه اللوحة أحد العوامل التي تجعلني أقول إن هذا الكتاب تحفيزي يناسب كل الأعمار. أما اللوحة المعبرة عن السنين إللي كبرتها ففيها 8 مراحل من عمر الفتاة، بداية من طفلة تحبو تطارد فراشة، إلى طفلة منطلقة تجري خلف الفراشة وبينهما لحظات سعادة وحزن وبكاء وانكسار وسعي وانطلاق، وكأنها أحوال الناس داخل الحياة، فلا سعادة تدوم ولا حزن، ولا بكاء ولا ضحك، وأن الحياة “بين بين” وليس فيها حالة مطلقة. أما الجزء الثاني من الكتاب فيطرح عبارات تقريرية أعمق وأطول، ولتربط الكاتبة القارئ بالكون حيث تشبهه بكون صغير، ولكن مع طرح السؤال في الجزء الثاني من الكتاب، جعلت الرسامة الطفلة تقف أمام المرآة، وكأنها تبحث عن الحقيقة في نفسها، ثم تبدأ الأسئلة الفرعية لهذا الجزء “مش يمكن نفسك إللي جواك أكبر بكتير من أي حكاية صدقتها؟” في إشارة إلى لأسئلة في الجزء الأول، ولتأكيد إجابته الداخلية بـ”لا” عن نفس الجزء، لتستخدم الكاتبة تشبيهات رائعة للطفلة وللقارئ ولكن هنا في شكل تقرير وليس تساؤلات فرعية “إنت الشجر والميّا الصافية، إنت النسيم في الليلة الدافية”، مع لوحة للفتاة تنام في هدوء وسط الطبيعة الخلابة، ثم عبارة تقريرية أخرى “إنت لمعة النجوم الفريدة، والكون إللي ورا الكواكب البعيدة”، ليكون مشهدا ساحرا للفتاة تحتضن نجمة، وتستند إلى نجمة أكبر وتدور في الفلك وسط كواكب المجموعة الشمسية وكأنها كوكب عاشر. ◙ الكاتبة كاثرين هيل تبرز للطفل ميزاته من خلال هواياته ◙ الكاتبة كاثرين هيل تبرز للطفل ميزاته من خلال هواياته وتستمر في تأكيد ذلك من خلال وصف الحالة الداخلية للفتاة “إنت السكون إللي جواك، وإللي ما بيهداش في يوم، إنت الهدوء إللي قبل العواصف، وقوتها لما تقوم”. ولم أفهم حقيقة كيف السكون لا يهدأ؟ أليس هذا وصفة للضجيج الداخلي والأفكار المتصارعة داخل عقل الإنسان، ولا أعرف إن كان الخطأ في النص الأصلي الذي التزم به المترجم، أم في الترجمة. واللوحة المعبرة لفتاة تجلس في وضعية اليوجا في هدوء وتأمل على صخرة وسط بحر هائج، وحولها حمامات السلام، فوقها السماء الغائمة. كتاب تحفيزي أما الجزء الثالث والأخير من الكتاب، والذي تضع فيه الكاتبة الإجابة على كل الأسئلة وتطرح الحلول في شكل نصائح للقارئ “مافيش حاجة لازم يوم تبقاها، دي نفسك حرة تطير في سماها”. وتظهر الفتاة وسط حقل من الزهور فاتحة ذراعيها مثل الحمام الذي يطير حولها فاردًا جناحيه كناية عن الحرية والانطلاق. ولم تنس الكاتبة أهمية التعبير عن المشاعر المتناقضة، والتي يتقلب حال الإنسان فيها بين سعادة وكآبة، وهنا تظهر اللوحة للفتاة تفكر وهي تضع يدها على خدها مبتسمة، وشجرة الأفكار والحالات تنبثق من رأسها، منطلقة في واحدة، وحزينة في أخرى، وتداعب حمامة في ثالثة، وتحمل حمامة على كفها في أخرى. وحولها الكثير من الورود والحمام. ثم تقرر بشكل قاطع “دي أكتر حاجات إنت نفسك فيها، هي دي إلّي العالم مستنيها”، لتربط أحلام القارئ بالعالم وتوضح أنه جزء من الكون يؤثر فيه كما يتأثر به، ثم تكمل في نسيج ساحر “والسحر إللي حيطلع كل ما تبقى نَفسَك، هو إللي هيلمس كل إللي في نِفسَك”. وهنا تظهر الفتاة جالسة على الهلال وفي يدها رشاش المياه تتساقط منه النجوم والقلوب الملونة من السماء على الأرض التي يظهر أول جزء منها وقد تغطى بالكامل بالورود والنجوم والقلوب. وفي آخر لوحة تتقدم الفتاة الحيوانات، والطيور، والأسماك، والكواكب، والزروع، وكل الكون يتبع خطاها، وتظل الفراشات فقط هي المنطلقة أمامها لتستمر في الانطلاق لما بعد قراءتها للكتاب كما بدأت دخول الكتاب بالانطلاق وراء الفراشات. رغم أن الكتاب موجه للطفل بالأساس إلا أنه أكبر من مستوى الأطفال فهو مناسب أكثر لمرحلة المراهقة والكبار اختار المترجم اللهجة العامية المصرية عوضا عن الفصحى، ولكنه وضع النص المترجم في قالب شعري بديع، وهذا القالب يحتاج من المترجم ليس فقط إتقان اللغة ولكن أن يكون شاعرا أيضا، ولذلك فقد قام القرملاوي بمجهود مضاعف في الترجمة، ومع اختيار العامية كان أولى أن تدقق أكثر من ذلك، فمثلا “اللي” يفترض أن تكتب “إللي” هكذا في العامية، “هيلمس” وأرى أنه كان من الأفضل استخدام الحاء لأنها أكثر شيوعا واستخداما لتصبح “حيلمس”. وأغلب لوحات الكتاب بالخلفية الفاتحة والرسوم الملونة والمبهجة، والصفحات الداكنة لم تأت سوى في الخوف والعياط، والخطأ، والأخطار، والكون، والعواصف. ورغم أن الكتاب موجه للطفل بالأساس، إلا أنه أكبر من مستوى الأطفال فهو مناسب أكثر لمرحلة المراهقة والكبار، كما أن رسومه مع روعتها إلا أنها تناسب أكثر فئة الكتب الموجهة للطفل، وليست فقط الرسوم ولكن عدد الكلمات في كل صفحة أيضا، وكأن النص موجه لفئة والرسوم والإخراج بشكل عام موجهان لفئة أخرى. والكتاب تحفيزي، فحين قرأته مدني بقوة وطاقة كبيرة إيجابية جعلتني أقرر أن يكون الكتاب رفقتي باستمرار، وأن أرجع إليه كلما احتجت حافزا قويا.

مشاركة :