عندما استمعت للمرة الأولى إلى صوت نانسي عجرم عام 2003 في أغنية “يا سلام” كان عليّ أن أتنازل كثيرا عن الانطباع السائد عن جيل غنائي مزعج. ليس لأن هذه الأغنية كانت أشبه بفاصلة مختلفة كليا عما كان يُغنى به آنذاك ولا زال، بل لأن أداء نانسي في تلك الأغنية أشبه بأمواج حسية لتاريخ من العشق الذي يكتنز في “يا سلام”. فقد نجح الملحن اللبناني سليم سلامة في بناء جمل موسيقية خلابة وأوجد ما يفوق التعبير عن روح مفردات النص الذي كتبه مصطفى زكي، وعدم الاكتفاء بآلية الكلمات. بينما جاء التوزيع الموسيقي لطوني سابا مكملا للروح الموسيقية التي أوجدها سلامة في هذه الأغنية الباهرة، فسلامة درس الهندسة وتعلم الموسيقى، لذلك يدرك هندسة الأنغام وأسرار التعبير بها. كانت أغنية “يا سلام” بالنسبة إلي المعبر الأمثل لأي قراءة نقدية لتجربة نانسي عجرم، وحتى عندما تثير الاستياء في تنازلات غنائية تجارية “ما أكثرها” أجد الذريعة لها في تلك الأغنية التي بقيت فاصلة تاريخية في تجربة هذه المطربة. بل إنني لم أطق الاستماع إليها في حفلة أقامتها في لندن قبل سنوات عندما رددت أغاني ليست لها وكأنها عجزت في التعبير عن نفسها في غنائها. مهما يكن من أمر، صوت نانسي ربح الرهان الغنائي عندما أدت بامتياز أغنية الفنانة الراحلة وردة الجزائرية “العيون السود” في الحفل الذي أقيم في الرياض مؤخرا لاستذكار ألحان الفنان بليغ حمدي. لقد أدت بإحساس بالغ جملا موسيقية في غاية الصعوبة بهذه الأغنية التي بقيت لا تليق إلا بفخامة صوت وردة، وكشفت أنها صوت مُدرب ومُعبر سواء في روح المفردة أم في مخارج الحروف، ذلك ما أتوق إليه في أن تجد نانسي نفسها في لحن للفنان كاظم الساهر. فالساهر عندما يلحن لغيره من الأصوات يبدو متحررا من قلق الذات في انتقاء الجمل الموسيقية المتوافقة مع عُربه الصوتية، وما يمكن اكتشافه في اللحن الباذخ الذي تركه في صوت لطيفة التونسية “حاسب” عندما وظف مقام “المخالف” العراقي روحاً واكتشافاً وبذل جهدا فائقاً في تدريب صوت لطيفة على أداء هذا المقام الصعب الذي أضافه الموسيقار الراحل محمد القبانجي إلى مدونة المقامات العراقية. نجح أيضا في لحن قصيدة “أهيم بتونس الخضراء” لصوت لطيفة، وهما مثالان غنائيان يعبران بامتياز عن ألحان الساهر لغيره من الأصوات. لذلك تبدو فرصة انتقاء نص يتسق مع عُرب صوت نانسي عجرم الذي يجمع بين النقاء الطفولي والحنين الغنائي، يضع فيه الفنان كاظم الساهر لمسته اللحنية المنتظرة ليقدم لنا نانسي بغير ما اعتاد الجمهور عليها. بوسعي أن أقول لا شيء يمكن أن يعوق هذه التجربة بين لحن الساهر وأداء نانسي، فما بين الاثنين أكثر من توافق شخصي وغنائي، كما أن كاظم نفسه وهو على دراية عميقة بعلوم الغناء والأصوات، قادر على اكتشاف أكثر مما يكمن في أداء نانسي في لحن يصاغ تحديدا لصوتها. وليس من الصعوبة بمكان الحصول على النص المتوافق لإنجاح هذه التجربة. قد أتحدث عن رغبة شخصية لجمع لحن الساهر مع أداء نانسي، لكنها أيضا فرصة لتقديم ما يرقى بالذائقة السمعية، فقد اكتشف الجمهور العربي أن “اللهو الغنائي” لا يعبر عنه، قد يسليه إلى حد ما، لكنه يتوق إلى ما يستعيد به حنينه وأحلامه وآلامه في الغناء، وكاظم نفسه يعبر عن نفسه اليوم بنصوص عميقة وقصائد تمثل رهانه على الأغنية وعلى المستمع معا. أما نانسي وبعد نجاحها الباهر في التعبير عن صوتها كوردة جزائرية صغيرة في “العيون السود” فتكاد تثير التوق لصناعة ألحان تكشف ما غاب عن هذا الصوت المشبع بالحنين الطفولي.
مشاركة :