منذ انطلاق عاصفة الحزم، في 26 مارس (آذار) الماضي، قبل سنة بالتمام والكمال، افتتح الخليج العربي بقيادة المملكة العربية السعودية صفحة جديدة في تاريخ هذا التكتل السياسي وفي تاريخ العرب. لم تكن عاصفة الحزم، وما تلاها من «إعادة الأمل» ثم «التحالف الإسلامي» ثم مناورات «رعد الشمال»، سوى منحنيات مختلفة في خط بياني واحد، هو خط إعلان الحرب على السياسة الإيرانية في المنطقة. اللبنانيون هم في طليعة الشعوب المعنية بهذا التحول الخليجي، أقله لسببين اثنين؛ أولهما العلاقات التاريخية بين السعودية ولبنان، التي شكلت الحريرية السياسية أعلى تجلياتها منذ اتفاق الطائف، وثانيهما وجود «حزب الله» في هذا البلد، بوصفه المنصة العربية الأولى للمشروع الإيراني! ما لا يفهمه اللبنانيون، أو كثير منهم، أن الخليج الذي يعرفونه تغير. أهل الخليج، يخوضون حربًا مصيرية، في مواجهة السياسة الإيرانية. وهم يقاتلون باللحم الحي كما قاتل الآباء المؤسسون. أولاد الشيوخ والأمراء موجودون على أرض المعركة وليس في الفنادق أو مراكز القيادة المحمية والمحصنة. يحرسون حدودهم ويقاتلون خارجها ويبذلون الدم والأنفس بشكل غير مسبوق في تجربتهم الحديثة. المعركة التي يتصدرها «المحمدان»، بن زايد وبن سلمان، هي للسعودية والإمارات وبقية الخليج وعموم العرب، معركة حياة أو موت، بعد أن طال التعايش مع السياسة الإيرانية في العالم العربي، كمشروع مذهبي توسعي وتفتيتي للدولة والمجتمع العربيين! بإزاء هذا التحول، بدا لبنان «خارج نطاق التغطية»، عاجزًا عن التقاط إشارات البث القادمة من الخليج، فكانت الخطيئة الكبرى لوزير خارجية «حزب الله» جبران باسيل، في مؤتمر وزراء الخارجية العرب ثم في اجتماع منظمة التعاون الإسلامي، وعزوفه عن التصويت على قرارات تستنكر الاعتداء على السفارة والقنصلية السعوديتين في طهران ومشهد بحجة كاذبة هي رفض وصف «حزب الله» بالإرهابي! فشل لبنان في امتحانه الأول عربيًا في زمن عاصفة الحزم وما بعدها، وظن من ظن أن بقاء على القديم من السياسات على قدمه ما زال يُصرف في بورصة السياسة العربية. ما لم يفهمه اللبنانيون، أو كثر منهم، أن من يقاتل دفاعًا عن مصيره، لا يقيم وزنًا للمواقف اللفظية، فكيف إذا كانت هذه المواقف لم تأتِ إلا بعد غضبة سعودية، فرملت تعاطي الحكومة اللبنانية مع احتلال «حزب الله» لقرار السياسة الخارجية كبديهة سياسية، ستمر مرور الكرام. ربما من سوء حظ اللبنانيين، الذين قاتلوا بشراسة منذ العام 2005 وحتى الأمس القريب، أن يهب العرب إلى الحرب فيما يعاني اللبنانيون من «الإرهاق الثوري» بعد الكثير من الاغتيالات وعنف السلاح بحق قواهم السيادية وخيرة نخبتهم. هذا ما لا يفهمه السعوديون. ما لا يفهمونه أن لبنان محتل من ميليشيا لديها كل الاستعدادات ولدى بعضها الرغبة في العودة إلى لغة السلاح، اغتيالاً وقتلاً واشتباكًا، عندما تدعوها الحاجة لذلك. ربما يغيب عن السعوديين أن الطلب المضمر بمواجهة «حزب الله» في لبنان يعني عمليًا تفجير البلد من دون وجود أي أفق حقيقي للفوز عليه، بالنظر إلى الاختلال العميق في توازن القوى بل انعدام التوازن بين قوة عسكرية عاتية وقوى سياسية عزلاء! وهو ما لا يمكن مقارنته بإمكانات دول الخليج، التي تسند قرارها بالمواجهة في اليمن وسوريا وغيرهما. أما سياسيًا، فلا ضمانة أن رفع حدة الاشتباك السياسي في لبنان، لن يؤدي سريعًا إلى اشتباك مسلح يمتلك فيه «حزب الله» اليد العليا في الحسم، والإطاحة بالأساسات التي ينهض عليها توازن الأمر الواقع الحالي والذي يبقي هيكلاً للدولة وخميرة لإعادة النهوض بها حين تتوفر شروط النهوض. أما الانهيار، نتيجة خيار مواجهة غير متكافئة، فيعني عمليًا وضع «حزب الله» في منازلة مع نظرائه من الحركات الدينية المسلحة، وإلحاق لبنان بساحات حرب الميليشيات السنية الشيعية. اللبنانيون، لن يحولوا لبنان إلى سوريا أخرى، ولا أحسب أن بين العرب من يريد للبنان هذا المصير. هل يستسلم اللبنانيون، ويطالبون العرب بالتوقيع على استسلامهم؟ كلا! لم يكن هذا خيارهم في السابق ولن يكون لا الآن ولا في المستقبل. والاعتقاد بذلك هو دليل آخر على عمق سوء الفهم غير المسبوق بين لبنان والعرب. الواقعية السياسية، والحرص على عدم التضحية بلبنان، يستوجبان التوقف عند معطيين. ثورة الشعب السوري التي أسقطت بشار الأسد بالقوة بانتظار إسقاطه بالفعل، أسقطت مع سفاح دمشق جزءًا كبيرًا من «حزب الله» ومشروعيته ومستقبله وهو ما لم يكن ممكنًا تصوره قبل الثورة السورية. أما السياديون اللبنانيون فقاتلوا قتالاً مريرًا من أجل المحكمة الدولية، التي مهما بدت محبطة في بطء أدائها إلا أنها حبل يلتف رويدًا رويدًا على عنق «حزب الله» ونظام الأسد. هذا التكامل في المسار والمصير بين معركتي اللبنانيين والسوريين لا ينبغي تغييبه تحت وطأة الغضب والانفعال أو الخيبة من لبنان، واستسهال الدفع به إلى أتون الحرب. فائض القوة، جنون أحيانًا. فائض الحكمة خيانة في معظم الأحيان. بين ما لا يفهمه اللبنانيون وما لا يفهمه السعوديون مساحة لبناء تفاهم عساه بدأ.
مشاركة :