إذا كان الفيلسوف الإيطالي بيرناديتو كروتشي في حديثه عن الجغرافيا الثقافية يقرر أن الجغرافي الذي يصف المشهد له المهمة نفسها التي هي للرسام، فماذا عن مهمة السارد أو القاص؟ الجواب نجده في رؤية دانيالز ستيفن وروكروفت سايمون في كتابهما خريطة المدن الحديثة، حيث يعتبران الرواية في صلب طبيعتها جغرافية؛ لأن عالمها يتكون من المواقع وخلفيات مكانية وزمانية، وميادين الصراع والحدود، ووجهات النظر والآفاق، وهي أماكن وأفضية متنوعة تشغلها شخصيات الرواية والراوي، وجمهور القراء حين يقرأون. كل ذلك نستحضره بعد قراءة مجموعة القاص محمد البشير الجديدة نفلة، وبالذات القصص السبع القصيرة وذلك دون المرور على السبع والثلاثين أقصوصة التي احتلت نصف أوراق المجموعة تقريباً. فالقاص محمد البشير يجلب نماذجه من الشخصيات إلى بيئته المحلية على أنها جزء من مكوناته الطبيعية التي تماهت فيه، ويستدعي من خلالها التباين الحاد في بنية المجتمع كما يراها، ويوظفها من أجل مساءلة القيم الاجتماعية واختبار مقولاتها عن المساواة كما في قصة نفلة، وعدم الازدواجية والصدق في السلوك الذي تنطق به قصة رقصة الضياء، أما عندما ينتقل بالقارئ إلى قصة أكفانها أطراس فهو ينتقل بقارئه إلى بيئة اجتماعية مغايرة، العراق الحديث المدمى والذي ما برح تتفاعل فيه قوى صاخبة تحجب صراخات مثل أطوار بهجت، شهيدة الإعلام والصوت المعتدل في أحداث ٢٠٠٦، والتي رثاها البشير سرداً في هذه التجربة الإبداعية. وهنا نتريث لنقرأها وفق منظور الجغرافيا الثقافية وما تفرضه من شروط أهمها المقدرة على دراسة المشهد الثقافي وما يفرضه من تحديات وتغييرات في البيئة الثقافية. «القصة كمعبر عن الجغرافيا الثقافية» يقترب القاص محمد البشير من المشهد الثقافي العراقي من خلال مرجعية معيارية حددها بالعصر الذهبي الذي كانت فيه العراق تعيش عصرها الزاهر، حيث الاستقرار ورغد العيش ورفاهيته برمزية الفن ومدى تطوره: (يخرج الناس إلى المقاهي لسماع ضجيج التفجيرات بدلاً من أغاني حضيري بوعزيز وناظم الغزالي..)، ثم يتقدم بخطى حزينة واصفاً مسرح الحدث وكمدخل يهيئ به القارئ لقصته (دماءٌ تهرقُ.. تتجلط.. تسوَدُّ. تطلي وتصبغ الأكفان. أعلام سودٌ تعلو حداداً على الشهداء. أدمنتها الأعين، فارتشفتها القلوب حتى الثمالة..). بعد هذا التمهيد، يتحول الصوت في القصة من الراوي العليم إلى صوت السارد الذي يتحرك مع تقدم الحدث الدرامي، والشخصية الرئيسية فيه وهو سارق الأكفان، كدلالة على بؤس الحياة والفقر، وكذلك تدني الحس الأخلاقي الذي يصاحب الحروب عادة (أخذت أحفر بهدوء في القبر الرطب قبل أن يسبقني الدود إلى ما أريد..) والذي برره بأن ثمن الكفن سيكون قيمة لدواء والدته، لذلك لا يمتهن بيع الأعضاء البشرية لطالبيها بالرغم من جزالة المبلغ الذي تحققه هذه التجارة. الجثمان المدفون كان لفتاة أخذ قماش الكفن ثم أهال التراب وليكتشف بعدها أن الكفن قد حوى وصية تلك الفتاة؛ يقرأها ويضطرب ويتراجع عن نيته لغسل الكفن ومن ثم بيعه مجددا لضحية أخرى؛ حيث كانت تلك الوصية بمثابة صرخة ضمير حاولت الفتاة المغدورة بثها في مجتمعها المتشظي والتي لم تستطع البوح بها حيث أخرسها الرصاص. المثير حقاً، هو مقدرة القاص البشير على الولوج إلى المشهد العراقي المعاصر والعناية بتفاصيل المكان وإحاطته بالرموز العراقية الأصيلة والنابعة من ثقافته، والأكثر أهمية في عمل القاص هو تجرده من أناه مما انطبع على العمل وكأنه رؤية عراقية صميمة وليست خارجة عنه، وذلك أحد أهم مؤشرات نجاح العمل حيث يقول بوكوك: (حقيقة الخيال هي حقيقة فوق الوقائع العادية، وإن الواقع المتخيل قد يتجاوز أو يحتوي على الحقيقة أكثر من الواقع اليومي المادي).
مشاركة :