خلال فترة ولاية نيكسون الثانية، أصبح كيسنجر الشخص الوحيد الذي يشغل في الوقت نفسه منصب وزير الخارجية ومنصب مستشار الأمن القومي. توفي هنري كيسنجر في التاسع والعشرين من نوفمبر2023 عن عمر يناهز 100 عام. وظل يتمتع بقدرة ذهنية كبيرة. كان مبدعاً ومتطوراً على نحو غير عادي حتى نهاية حياته. فخلال أيامه الأخيرة، ظل يتأمل ويدلي بدلوه في بعض من القضايا الكبرى التي تواجه العالم بما في ذلك الحربين الدائرتين في أوكرانيا والشرق الأوسط، والعلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وتأثير الذكاء الاصطناعي على السياسة الدولية. وتشهد العديد من المقالات الصحفية حول سيرة الرجل التي نشرت في غضون ساعات من وفاته على أهميته كدبلوماسي ومؤرّخ ورجل أعمال. واللافت في هذا الصدد هو الاختلافات القوية في الرأي بشأن تركته ومساهمته في توازن القوى العالمي. إذ يعتبره الكثيرون أهم دبلوماسي أميركي في القرن العشرين، في حين يزعم منتقدوه أنه كان مسؤولاً عن بعض من أبشع الجرائم التي ارتكبت خلال عقد السبعينيات. ولكن إنصافاً لوجهتي النظر المتعارضتين هاتين، من الضروري التحدث بشكل دقيق ومحدد جداً عن إنجازات الرجل و«أخطائه» المزعومة معاً. انضم كيسنجر إلى إدارة نيكسون عام 1968. واشتهر، خلال فترة ولايته الأولى، بدبلوماسيته السرية مع الصين الشيوعية. وباستخدام قناة سرية مع باكستان، زار بكين في يوليو 1971 بناءً على تعليمات من نيكسون، الأمر الذي عبّد الطريق لاجتماع تاريخي بين نيكسون وماو تسي تونغ في فبراير 1972. هذا الاختراق الدبلوماسي أدى إلى إقامة علاقات رسمية، وكان يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره الحدث الذي توّج رئاسة نيكسون. كما جعل الاتحادَ السوفييتي أكثر استعداداً للتوقيع على اتفاقيات مهمة للحدّ من الأسلحة النووية مع الولايات المتحدة. خلال فترة ولاية نيكسون الثانية، أصبح كيسنجر الشخص الوحيد الذي يشغل في الوقت نفسه منصب وزير الخارجية ومنصب مستشار الأمن القومي. وفي أكتوبر 1973، عبرت مصر وسوريا قناةَ السويس في هجوم مفاجئ على إسرائيل تمكنتا خلاله من استعادة جزء كبير من مرتفعات الجولان. ولمدة أسبوع أو نحو ذلك، كانت إسرائيل في ورطة كبيرة قبل أن يتم إنقاذها بجسر جوي ضخم لنقل المعدات العسكرية إلى قوات الدفاع الإسرائيلية من قبل الولايات المتحدة. فاستعادت إسرائيل زمام المبادرة، واستطاعت بعد عبورها قناة السويس تهديد الجيش المصري الثالث. بيد أن تدخل كيسنجر في الوقت المناسب من أجل فرض وقف إطلاق النار مكّن كلا من مصر وإسرائيل من ادعاء النصر. وفي 1974، خاض كيسنجر دبلوماسيته المكوكية الشهيرة التي توّجت باتفاق الانسحاب بين الأطراف المتناحرة الرئيسية الثلاثة، ومهّدت الطريق في نهاية المطاف للزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس في نوفمبر 1977 واتفاقيات كامب ديفيد بعد عام على ذلك. ويرى الكثيرون أن مساهمة كيسنجر في السلام في الشرق الأوسط كانت أهم إنجازاته. ولكن منتقدي كيسنجر يشيرون إلى الدور الرئيسي الذي لعبه في تأييد الانقلاب الذي وقع في 1973 ضد الزعيم الاشتراكي الشيلي سلفادور أليندي مما أفضى إلى الحكم الوحشي لأوغستو بينوشيه. كما كان له دور مهم في دعم قصف كمبوديا في 1970 وفي دعم رجل باكستان القوي الجنرال يحيى خان في الحرب الأهلية في شرق باكستان والتي أدّت إلى التدخل الهندي واستقلال بنغلاديش في الأخير. ومن الأحداث المروعة الأخرى التي يُتهم بالتورط فيها أيضاً هناك دعم الغزو الإندونيسي لتيمور الشرقية في 1975. كان مصدر القلق الرئيسي لكيسنجر هو أن النظام الدولي هشٌّ ولكنه ضروري إذا كان يراد للعالم تجنب كارثة نووية. ولئن كانت هناك مؤسسات مهمة قد تطوّرت للحؤول دون وقوع مثل هذه الكارثة، فإنه لا يوجد بديل للإدارة الدقيقة والحذرة للعلاقات بين القوى العظمى التي تسيطر على أدوات السياسة الواقعية. وفي هذا السياق، يُظهر الصراع في أوكرانيا أننا ما زلنا نعيش في أزمنة خطيرة. وقد كان كيسنجر مستعداً لاتخاذ سياسات مستهجنة أخلاقيا تلافياً لفوضى دولية. والواقع أن لا أحد يستطيع أن ينكر أن كيسنجر كان رجلاً استثنائياً: ذكياً، وحساساً جداً للانتقادات، وأنانياً، ودبلوماسياً ومؤلفاً رائعاً. ولا شك أنه ستكون هناك العديد من عمليات إعادة التقييم لحياته في المقبل من السنوات. ولكن تركته الأهم سيحدِّدها الباحثون والمختصون الذين من المرجح أن يظلّوا معجبين به وينتقدونه، ربما بالقدر نفسه.
مشاركة :