لما عدلتُ عن إكمال الدراسة في جامعة الملك سعود بعد مضي عام من قبولي فيها وتقلبي بين أروقتها إلى كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وقبولي فيها، أقامت الجامعة لقاء للطلبة المستجدين فكنت من الحاضرين. انتهى اللقاء الخطابي والكلمات ثم بدأت أسئلة الطلاب وكلها مكتوبة، ومنها فيما أذكره: كيف يقال كلية الشريعة ومقرر القرآن نصيبه ساعة واحدة فقط في الأسبوع؟! لماذا لا يزاد في ساعاته؟ فالتفت مدير الجامعة (ولم يكن تخصصه شرعياً) إلى عميد كلية الشريعة قائلاً: هذا من ترتيب المقررات واختيار المناهج فلعلكم يا دكتور عبدالرحمن تتولى الإجابة عن هذا السؤال؟ فقال العميد (وكان في الصف الأول مما يلي المنصة نسمع صوته ولا نراه بعد حمده وثنائه على الله، وترحيبه بالطلبة والحاضرين): شكر الله لكم معالي المدير، وجزى الله الطالب خيراً على ما استشكله وإن لم يكن مشكلاً، وهذا نابع من حرصه فيما يظهر على الخير، ومحبة القرآن، وأسأل الله أن يجعلنا جميعاً من القائمين بحق كتابه وتعظيم حرماته، والحقيقة أنَّا لو جعلنا للقرآن جميع ساعات الدراسة ما قمنا بحقه، فالسائل وفقه الله، يعلم ذلك هو وبقية زملائه ولا يخفى عليهم، كما لا يخفى أن المقررات الأُخر هي من كتاب الله ومن الأصل الثاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما تعلماً في كيفية الاستدلال منهما كأصول الفقه، أو أخذ الأحكام منهما كالفقه، أو تفسر المراد منهما كالتفسير ومقرر الحديث، أو ما يجب أن يكون عليه المسلم من توحيد وهو أهمها، فكان مقرر العقيدة، أو ما يقيم لسانه فيدرك من القرآن والسنة ما لا يدركه من لم يتعلم مقرر النحو، فالمقررات كما يراها السائل هي في مصلحة الطالب ليكون مؤهلاً لأمور علمية كثيرة، ثم يحسن بالطالب الملتحق بكلية الشريعة أن يكون حافظاً لكتاب الله قبل التحاقه بها، وعنده من الاهتمام بذلك والحرص عليه، لا أن يريد جعل كلية الشريعة مجرد محضن للتحفيظ، فهذا صرف لما أنشئت من أجله الكلية، ومن كان عنده قصور في حفظ كتاب الله فليستكمله بقية يومه، وانتهز هذه الفرصة فأوصي الجميع أن يعتنوا بكتاب ربنا ما بقي في العمر بقية، كما أن طلب الأخ الكريم حول مقرر القرآن إن لم ير فيما قلت جواباً لإشكاله، فليكتب مقترحه إلى عميد الكلية ليتم عرضه على مجلس القسم، فإن رأى المجلس وجاهة الاقتراح فينظر فيه مجلس الكلية ثم يرفع بعد ذلك إلى مجلس الجامعة، مقدراً له اهتمامه. بهذا الجواب تقريباً أجاب عميد الكلية، وحقيقة لما طُرح السؤال أورث سبحاً ذهنياً!! فعلاً لماذا مقرر القرآن الكريم في كلية شريعة يكون بهذا المقدار؟ ثم كيف سيجيب مدير الجامعة عن هذا؟ ولما حول الجواب إلى عميد كلية الشريعة؟ جال في خاطري كيف سيتكلم عميدنا عن هذا الموضوع؟ فما إن بدأ العميد بالجواب حتى تبددت الشكوك والإثارة، ورسخ في ذهني حسن جوابه رحمه الله. وَاليَقيْنُ الشِّفَاءُ مِنْ كُلِّ ظَنٍّ مَا يُثيرُ الْهُمُومَ إِلَّا الظُنُونُ وصدق الأول في قوله: تَجَلَّلتهُ بِالرَّأي حَتَّى أَرَيْتَهُ بِهِ مِلءَ عَيْنَيْهِ مَكَانَ العَوَاقِبِ كانت هذه أول مرة أسمع صوت عميد كليتنا، مضت سنة تزيد لا تنقص حتى دخل علينا العميد معلماً لمقرر أصول الفقه، كان سمته وهيئته ولفظه ونظره مما يفرض على مُجَالسه الاحترام والتوقير والتقدير، بدأت الدراسة فكانت ساعات تعليمه ذلك الفصل من ألذ المحاضرات في مقرر الأصول، كان يدخل لا يحمل إلا المشلح على كتفه، وورقة التحضير طاويها بيده، يقرأ الطالب وربما أكرم كاتب السطور بالقراءة، فيعلق على روضة الناظر تعليقاً غير مستطرد فيه ولا مخل حتى استحلى كثير من الطلاب أصول الفقه لتعليم الشيخ رحمه الله. كان الشيخ رفع الله منزلته يتغافل مع وقار تام، وتعامل رفيع مع الطلاب حتى يكاد يصدق عليه ما وصف به الحافظ ضياء الدين المقدسي رحمه الله شيخ المذهب في زمانه ابن قدامة رحمه الله بقوله: (ما علمت أنه أوجع قلب طالب). جاء مرة ليدخل الفصل وكان بعض الزملاء عند الباب فلما دخل الشيخ دخلوا، وبعد الانتهاء من التحضير، قال الشيخ: حقيقة لما كنتُ عميداً ويأتي الضيوف من داخل المملكة أو من خارجها ونتجول بهم في أروقة الكلية ليروا هذا الصرح العظيم وينظروا في سمت طلابها، ووفرة قاعاتها وحسنها، كأن شيئاً يضرب وجهي إذا مررنا ورأينا الطلبة وقوفاً عند أبواب القاعات، وربما ازدحمت بهم الممرات! كيف يكون طلبة العلم وهم القدوة لبقية طلاب الجامعة بهذا التصرف الذي يوحي نوعاً ما بعدم الانضباط والاحترام؟! إن كان لك أيها الواقف حاجة فاذهب لقضائها لا تقف عند الباب، تريد أن تحدث زميلك فادخل وتحدث معه داخل القاعة لا خارجها! إني أفاخر بطلاب الكلية في سلوكهم وسمتهم وانضباطهم، لكن بعض هذا التصرفات تخجلنا أمام بعض الضيوف، حين يسأل ما سبب وقوفهم، وخاصة إن كان من خارج البلاد، فربما ظنها مظاهرة لإنكار شيء تم اتخاذه مع الطلاب، لا نتخذ هذا سلوكًا يتخذه بعض الطلبة حتى يأتي أستاذ المقرر، فلعلنا نكون قدوة لغيرنا في عدم التجمع هكذا قبل الدرس. لا يَكفهِرُّ إذا انحازَ الوقارُ بهِ ولا تطيشُ نواحيه إذا مزَحَا مضت الأيام وتخرج كاتب المقال، وكان الصراع على موضوع الوظيفة حاضراً، فقد رشح للإعادة في الكلية كما تم جعل اسمه في مرشحي القضاء، فاشتُرِطَ عليه لإتمام الترشيح الأول الإعفاء من الترشيح الثاني، فضاقت به سبل كانت واسعة أكثر من شهرين، فذهب إلى مكة.. فإن بلدة أعيا عليَّ طلابُها صرفتُ لأخرى رحلتي وركابي فكان على فعل كثير من أهل نجد في جلوسهم بين العشاءين في صحن الحرم أمام الميزاب، ينظر إلى الكعبة (لا لتقوية البصر على قول ابن القيم رحمه الله، ولم يصح حديث في كون النظر المجرد عبادة لكنها راحة للقلب وجمال وجلال في العين وأرجو أن الناظر تعظيماً داخل في قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (32) سورة الحـج. طال النظر والطائفون حولها، فإذا بشيخه تقبل الله أعماله الصالحة وضاعفها له مع الطائفين، فبعد أن استكمل شيخه الطواف، وقارب العشاء على الأذان، فإذا الشيخ يبحث عن مكان ليصلي فيه، إذ أخذ الناس أماكنهم وتزاحموا، فقام التلميذ يلوح بيده فرآه الشيخ.. جرى الإيماءُ بينهُما رسولاً فأعربَ وحيَهُ المُتناجيان فأقبل الشيخ رحمه الله وفُسِحَ له في المكان فصلى ثم شكرني فقلت له: يا شيخنا رحمكم الله، حصل كذا وكذا بعد التخرج فما رأيكم؟ وقد عرض علي رئيس قسم أصول الفقه حينها (ولا أنس فضله في ذلك إلى هذه اللحظة جزاه الله عني خيراً) أن يتولى موضوع قبولي في القسم وضرب بيده على صدره، وإني أرى النفس مائلة إلى قسم الفقه الذي رشحت فيه، فقال: أصول الفقه يكفي فيه ما تعلمته في الكلية إن كنتَ ضبطت ما درسته، فهو ليس مقصوداً لذاته لتمضي فيه عقوداً من عمرك، فهو من علوم الآلة التي تبني عليها تفقهك، والناس بحاجة لعلم العقيدة وعلم الفقه، أقول لك هذا مع تخصصي في أصول الفقه وتدريسي له سنوات. ثم قلت له: يا شيخنا كيف أوقعتم ابنكم في أمر القضاء؟! لا سيما بعد تطلعه للإعادة في الكلية؛ إذ كان الشيخ عضواً في لجنة الترشيح للقضاء حينها، فالتفت إليَّ قائلاً: الوظائف الآن بُعْبُع فكون الوظيفة تأتيك وأنت لم تسع إليها خير من سعيك وراءها، ولا أحصي عدد الذي يتشفعون لترشيح بعض أقاربهم للقضاء فقطع الكلام رفع المؤذن صوته بالدعوة التامة. يسر الله بفضله الانضمام للأمانة العامة للتوعية الإسلامية في الحج والعمرة.. وكان المرشِّح لدخولي فيها هو شيخنا الجليل رحمه الله؛ إذ كان عضواً في لجنة التوعية أو مكلفاً بالإشراف أو بهما معاً، فهو مسؤول عن تقويم الدعاة وعملهم. وبعد سنتين من الانضمام رُشِّحتُ للجنة العلمية للإجابة عن أسئلة الحجاج عبر الهاتف، فصدمتُ حقيقة من هذا الترشيح؛ لكوني لستُ أهلاً في نظري للفتوى لا سيما مع صغر سني، وقلة خبرتي، وقرب تخرجي في الكلية، مع كون الذين في اللجنة من طبقة مشايخي ومشايخ مشايخي، وقد كنت أصغرهم سناً وقتها، ولما آخذ الدكتوراه بعد، فاعترضتُ على هذا الترشيح، وذهبت للمشرف على توزيع الدعاة، فقال: هذا ترشيح من اللجنة، وكثير من المشاركين في التوعية يريد أن يكون في اللجنة العلمية على الهاتف، فقلت: اجعل أحدهم مكاني، فقال: ليس بيدي، قلت: سأكلم فلاناً، فقال: كلِّمه لعله ينفعك، فكلمته، فقال: لقد رشحك الشيخ عبدالرحمن ولا يمكن كسر قوله، ولا عصيان رأيه! فلعلك تكلمه فيرجع عن ترشيحه، فاتصلت على شيخنا رحمه الله، وقلت له عن الموضوع، وأني سأرجع إلى الرياض إن أصرت التوعية على جعلي في اللجنة العلمية في الإجابة عن الأسئلة عبر الهاتف! فأجاب بحنكة الكبار، وبصيرة العلماء، أأحد منعك من الرجوع!! لكن لعلك إذا أنهيت عمرتك وارتحت في مبنى الدعاة وأصبحت يكون بيننا تواصل بإذن الله، وإن شاء الله أمرك إلى الخير، أصبحنا من الغد وقابلته رحمه الله، فقال لي بعد أن أخذ بيدي: يا شيخ محمد كثير من المشايخ يريدون هذا الذي تهرب منه، ولم يُرشَّحوا وقد رأى المشايخ أن تكون حيث تم ترشيحك، فقلت: جزاكم الله خيراً لا أريد هذا التفضيل والترشيح، فقال: عندي لك رأي أتسمعه؟ فقلت: تُكْرمني به شيخنا وتسعفني به، فقال: جرب هذين اليومين ولك عليَّ إن شاء الله أن أعيدك إلى أحد المراكز بعدها إن لم ترد البقاء معنا، بدأت في العمل على الهاتف، وكانت غرفاً وكبائن يتوازع أصحاب الفضيلة وقتها وزمانها، فكان رحمه الله يمر عند الموزع والمنظِّم للمشايخ لينظر في ورقة التوزيع والمتابعة، فيرى اسمي في الكبينة رقم كذا، فما أحس إلا بدخوله عليَّ مسلِّماً ثم يجلس معي فيحادثني مدة لا تقل عن نصف ساعة وربما تبلغ ساعة، فإذا رن الهاتف رفعته ودفعته إليه، فيقول: هذا عملك! فأقول: ترشيحكم سبب في هذا، فيضحك رحمه الله، وقد كررت عليه في أن يتولى الفتوى ولو مرة فيرفض رفضاً تاماً، فأقول: ترفضون مع ما أعطاكم الله من علم، وتجعلون مثلي يتولى ذلك، ألا تخافون أن تلحقكم تبعة؟ فيطرق برأسه ثم يرفعه وينظر إليَّ من فوق النظارة التي يلبسها ويقول: الفتوى عظيمة! وليس عندي قوة لتحملها أو نحواً من هذا، ثم يرف الموضوع بقوله: كثير من السائلين من جنسية معروفة، وتجده سأل قبلك ثلاثة من المشايخ فلو سألته هل سأل أحداً قبلك؟ لعله ينقطع عن تكراره للسؤال! وإذا كنت لا تعلم الجواب فقل له: يتصل مرة أخرى. مضى اليوم الأول بفترتيه، وكان الشيخ يأتي في الفترتين فيجلس ويحدثني بأطايب حديثه، وكانت الكبينة مكونة من كنب واحد وأمامه ما يضع الجالس عليه قدمه، وهي صالحة للجلوس عليها، فإذا دخل الشيخ قمت من مكاني ليجلس فيرفض! ويقول: ترجع إلى مكانك وإلا خرجت، فأضطرُّ للجلوس ثم هو يجلس بكل تواضع على تلك المرتبة التي أمام الكنب. دَنَوتَ تَواضُعًا وَعَلَوتَ قَدرًا فَفيكَ تَواضُع وَعُلُوُّ شَانِ حدثني بكثير من القصص والأخبار طار أكثرها، وبعضها تأتي به الذاكرة بلا موعد. لم أكلم شيخنا رحمه الله في ترك المكان الذي وُضعت فيه؛ لأن عادة المرء حين يفل أغراضه، وينشر متاعه، فإنه يستثقل لملمتها مرة أخرى، ثم راق لي مجلس الشيخ ومجيئه في الغدو والآصال، مع طيب حديثه، وكرم نفسه، ثم قد رأيت أنسي به وأزعم أنه أَنِسَ بي. والودّ يُظهِرُ في العُيونِ خَفيَّةً إِنَّ الوِداد سريرةٌ لَا تُكْتَمِ وقد استمرت طريقته رحمه الله في مجيئه إلى الكبينة طوال السنوات التي شاركت فيها صباحاً ومساءً. جاء مرة ذكر معالي شيخنا العلامة صالح الفوزان أعظم الله أجره، ونحن في الكبينة، فقال: لما كنتُ طالباً في المعهد العلمي بشقراء كنا نسمع باسم طالب نجيب جاد في طلبه للعلم في معهد بريدة اسمه «صالح الفوزان»، وأن سمته سمت أهل العلم، فتطلعت نفسي لرؤيته، فلما قدمت الرياض للدراسة في كلية الشريعة، رأيت الطالب الذي كنت أسمع عنه في حي الملز، فإذا هو كما سمعنا، وكانت له هيبة مع صغر سنه، وهذا هو صالح الفوزان الذي عرفته لم يتغير أو يتبدل أكثر من خمسين سنة. كان شيخنا صالح الفوزان حفظه الله يقدر جداً ويحب شيخنا عبدالرحمن رحمه الله، وقد عملا سوية في إدارة المعهد العالي للقضاء، وقد ذهبت مرة بالشيخ عبدالرحمن لزيارة الشيخ صالح الفوزان في منزله وقد ظهر البشر والفرح بزيارته. كان الشيخ عبدالرحمن مما رأيته من صدق محبته وأبوَّته يحوط تلميذه بنصحه، قال مرة: تعرف فلاناً؟ قلت: نعم، معرفة هامشية لكن ليس بيني وبينه تواصل، فقال: لعلك تنتبه، فمجانبته غنيمة. وكالسَّيف إن لاينتهُ لانَ متنُهُ وحَدَّاهُ إن خاشنتُهُ خشِنانِ جاء عرض موضوع دنيوي قد عزمتُ عليه، فقال: أشور عليك؟ فقلت: تكرمني برأيكم الراشد، فقال: لا تفعل وكن على ما أنت عليه من هذا الأمر حتى ييسر الله، فتركتُ ما عزمتُ عليه، واغتبطت برأيه عشر سنين. بصير بأعقاب الأمور كأنما يرى بصواب الرأي ما هو واقع روي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه قال: (لا عاش بخير من لم ير برأيه ما لم ير بعينه). إذا همَّ لم يشركه في الأمر غيره وكان بما يأتي أطب وأبصرا اتصل مرة، شاكراً عن مقال كتبته عن شيخنا الزاهد سعد الحصين رحمه الله وقال: لقد سرني كثيراً ما قيدته عن الشيخ رحمه الله وآلمني فقده، وقد طلبتُ طباعة المقال لأقرأه بأحرف أكبر مما عليه أحرف الصحيفة. رأيته في أيام الحج (في مخيم 18 في منى) في آخر حجة له رحمه الله ربما عام 1439 أو قبله بسنة يجاهد نفسه على المشي! يقف ثم يمشي أمتاراً ثم يقف ثم يمشي خطوات قمتُ إليه مسرعاً لأمسك بيده، وأسايره على مشيه، فقال: الله لا يصغرك، لكن دعني أجاهد جسدي بلا معونة من أحد من الخلق، ولا حاجة لك في الوقوف معي ولا حاجة لي في سيرك بجانبي. قَلِيْلُ التَّشَكِّي للمُصِيْبَاتِ ذَاكِرٌ مِنَ اليَوْمِ أعْقَابَ الأحَادِيْثِ فِي غَدِ (هذا البيت من ألطف الأبيات، فقول دريد بن الصمة (قليل التشكي) أي لا يظهر التشكي، فقد نفى أنواع التشكي كلها عنه، كما في قول الله تعالى: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} فعلى تفسير بعض أهل العلم: إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء، كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط. تريد: ما رأيت مثل هذا قط). وكم كان شيخنا رحمه الله صبوراً، والعجب من حال كثير منا في قلة الصبر، وكثرة التشكي، حتى أعجبني جدًّا قول أحمد شوقي: ولتعلَّمنَّ إذا السُّنونُ تَتَابعت أنَّ التَّشكِّي كانَ قبلَ أوانِهِ وجهني أيام التشريق إلى كبينة ودلني على موقعها بعد أن سألني هل عندك الساعة من عمل فأجبته بـ»لا»، ذهبتُ إليها وكانت مغلقة، فاتصلت على الشيخ، فطلب رحمه الله من يفتحها فجلستُ فيها ما شاء الله، فجاء بعد ساعة، وقد ظننت أنه جاء ليتابع العمل، وقد مشى مسافة ليست بالقصيرة، كتب الله له أعماله الصالحة كلها وجازاه بأحسنها، فقال: كلَّفنا عليك، فالشيخ الذي عليه العمل هنا عرض له عارض، فأردت أن تحل محله، فعجبتُ من تعنِّيه ليخبرني بذلك رحمه الله رحمة واسعة. اغتبطت به عميداً ومعلماً وصاحباً في الرياض وفي موسم الحج، سلمني بيده شهادة التفوق في كلية الشريعة، ممهورة بتوقيعه. كان رحمه الله على جادة السلف الصالح وقانونهم، اعتقاداً وفقهاً ومنهجاً وتعاملاً، كان رحمه الله متأنياً حذراً، قد ملئ عقلاً، وفاض نبلاً، وزان وقاراً، يُتعلم من هديه، ويقتبس من دلِّه، يُغبط من أخذ برأيه، كان حسن السمت، كثير الصمت. صَمُوتٌ إِذَا مَا الصَّمتُ زيّنَ أَهلَهُ وَفَتَّاقُ أَبكَارِ الكَلَامِ المُخَتَّمِ عيِّن رحمه الله في هيئة كبار العلماء، كما كان قبل ذلك عميداً للمعهد العالي للقضاء ولكلية الشريعة، درس في المعهد العلمي بشقراء، وتخرج فيه عام 1379هـ، ثم عاد إليه معلماً عام 1384إلى عام 1392هـ، ثم انتقل إلى الجامعة، وأخذ درجة الماجستير ثم الدكتوراه، شارك في عدد من المجالس العلمية، ورأس قسم أصول الفقه، وكان عضواً في لجان خارج الجامعة، درَّس أصول الفقه سنين عدداً، كان زاهداً في نفسه، لم يبحث عن شهرة أو منصب، كان متجافياً عن أكثر الأمور. يصدق فيه قول القائل: وأمْنَعُ نَفْسِي منْ أُمُورٍ كَثيرَةٍ إِذَا مَا نُفوُسُ النَّاسِ قَلَّ امْتنَاعُهَا اتصلتُ به طالباً أن يأذن لي في زيارته وأن أقرأ عليه بعض المسائل، فقال: حياك الله على الأولى دون الثانية!! تلاحقت عليه الأمراض، وتتابعت عليه حتى لزم فراشه، وقد تجاوز الثمانين، فقد ولد عام 1360هـ، وبعد هذه العقود الثمانية ما راع أهل العلم والفضل إلا خبر وفاته، فصلي عليه بمدينة الرياض يوم الخميس الموافق 17 / 11 / 1443هـ، وقد شهد الصلاة عليه أجيال قد تفاوتت أعمارهم ممن تجاوز الثمانين إلى أبناء العشرين، وكل يحمل ذكريات مع الشيخ فمستقل ومستكثر. سلام على ذاك الجبين ورحمة على شخصك المدفون في ذلك القبر على وجهك الميمون حيًّا وميِّتًا سلام يزيد العطر عطرًا إلى العطر رحم الله شيخنا الجليل عبدالرحمن بن محمد السدحان وأحسن الله عزاء الجميع فيه وأخص ذويه وأهله، وعلى رأسهم أخوه الأستاذ الدكتور الأصولي الألمعي فهد حرسه الله، وأذكر مرة قلت لشيخنا: إني أودُّ الجلوس إلى أخيكم الأستاذ الدكتور فهد، فقد أدركتُ بعض مشايخي يذكرونه بخير كالشيخ عبدالله الغديان رحمه الله، فمال الشيخ عبدالرحمن رحمه الله برأسه، وقال: لعل الله ييسر لقاءك به، مع أن أخي مثلي ما كلٌ يصلُح له! فقلت: ما دام صلحت لكم شيخنا فيما يظهر لي، فلعلي أصلح له. غفر الله للشيخ عبدالرحمن وبارك في أهله وأخلف على الجميع خيراً. ** ** - عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
مشاركة :