دخلت حرب غزّة شهرها الثالث من دون ما يشير إلى إحتمال وضع حدّ للمأساة قريبا. تحتاج إسرائيل إلى مزيد من الوقت لإلتقاط أنفاسها في ظلّ إدارة أميركيّة تتعاطى مع الوضع القائم بنوع من التساهل تجاه ما ترتكبه إسرائيل. من الواضح سعي الإدارة الأميركيّة إلى استيعاب الوضع الإسرائيلي المعقد عبر الجمع بين التناقضات. نجد إدارة جو بايدن تدفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيوغوتيريش إلى إتخاذ موقف جريء من المجزرة جهة، فيما تلجأ من جهة أخرى إلى استخدام الفيتو في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لمنع تمرير مشروع قرار إماراتي يوقف مأساة غزّة وتداعيات المأساة من منطلق "إنساني" قبل أي شيء آخر. في ظلّ إدارة أميركيّة متردّدة، ليس في استطاعة إسرائيل التي فقدت صوابها الردّ على الضربة التي وجهتها إليها "حماس" سوى عبر سياسة الأرض المحروقة. يعني ذلك رغبة في تدمير للقطاع الذي مساحته 365 كيلومترا مربّعا، بغية إزالته من الوجود. ليس معروفا هل إزالة غزّة من الوجود سيعيد إلى إسرائيل صوابها وقوة الردع التي افتقدتها يوم السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر 2023. سيكون هذا اليوم، الذي هاجم فيه مقاتلو "حماس" مستوطنات غلاف غزّة، نقطة تحوّل على صعيد المنطقة كلّها إن لم يكن العالم، خصوصا بعدما عوّمت غزّة فلاديمير بوتين. عاد بوتين يتصرّف كرئيس روسيا الواثق من نفسه. عاد يسافر إلى خارجها بعدما خفّ الضغط عليه في أوكرانيا... بسبب حرب غزّة. يمكن النظر إلى حرب غزّة من زوايا مختلفة أولاها الزاوية الإسرائيليّة. كانت الحرب، ولا تزال، كارثة على الدولة العبريّة التي نجدها تلجأ إلى قتل مزيد من النساء والأطفال والمتقدمين في السنّ وتدمير مزيد من المنازل والمستشفيات والمدارس والمساجد من أجل تأكيد وجودها وتأكيد أنّها ما زالت قادرة على الردّ. بكلام أوضح، سيكون على إسرائيل إرتكاب المزيد من الأعمال الوحشية والجرائم لإثبات أنّها ستهزم "حماس". تدفع إسرائيل ثمن رهانها التاريخي على "حماس" من أجل إفشال أي تسوية سياسيّة كانت تقوم على خيار الدولتين كانت في متناول اليد أيّام ياسر عرفات. تجد نفسها في ظلّ حكومة بنيامين نتانياهو خارج الخيارات السياسيّة في مرحلة لا جدوى فيها من هذه الخيارات. لا جدوى من الخيارات العسكريّة، كونها لن تعيد إلى إسرائيل ما فقدته يوم 7 تشرين الأوّل – أكتوبر 2023 في ذكرى مرور خمسين عاما ويوم واحد على حرب تشرين أو حرب أكتوبر 1973. تبدو إسرائيل في مأزق كبير ليس ما يشير إلى أنّ في استطاعتها الخروج منه قريبا ما دام "بيبي"، الذي يقدّم إنقاذ نفسه ومستقبله السياسي على إنقاذ إسرائيل، على رأس الحكومة. لا يمنع المأزق الإسرائيلي من الإعتراف بالمأزق الذي تعاني منه "حماس" التي يبدو أنّها ارتكبت خطأ لن يكون في استطاعتها العودة عنه، خصوصا أنّها سمحت لإسرائيل بتدمير غزّة وتهجير أهلها من جهة والسعي إلى تصفية القضيّة الفلسطينية من جهة أخرى. الأكيد أنّ تدمير غزّة إحتمال وارد. ما ليس واردا تصفية القضيّة الفلسطينيّة بأي شكل. لا يمكن تصفية قضيّة شعب موجود على الخريطة السياسيّة للمنطقة، على أرض فلسطين نفسها، وليس في أي مكان آخر. لا بدّ في ضوء هذه المعطيات الإسرائيلية والحمساوية التوقف عند نقطة تتمثّل في أنّ "الجمهوريّة الإسلاميّة" في إيران تسعى إلى الإستفادة إلى أبعد حدود من حرب غزّة. يكشف كلّ ما تقوم به إيران رغبة في عقد صفقة مع "الشيطان الأكبر" الأميركي العاجز عن الدخول في مثل هذه الصفقة لإعتبارات داخليّة. أكثر من أي وقت، تعتبر "الجمهوريّة الإسلاميّة" نفسها مؤهلة لتمثيل المنطقة بصفة كونها القوة المهيمنة فيها، خصوصا في ضوء سيطرتها على العراق وسوريا ولبنان وجزء من اليمن. على هامش حرب غزّة تخوض إيران معركة إثبات وجودها في دول عربيّة معيّنة. تفعل ذلك معتمدة الإنتهازية بغض النظر عمّا إذا كان هجوم "حماس" الذي استهدف مستوطنات غلاف غزّة كان بالتنسيق معها أم لا. ليس اطلاق ميليشيات عراقيّة تابعة لـ"الحرس الثوري" قذائف في اتجاه السفارة الأميركيّة في بغداد سوى رسالة إيرانيّة أخرى إلى واشنطن. كشف هذا الهجوم مدى السيطرة الإيرانيّة على العراق من جهة ومدى هشاشة حكومة محمّد شيّاع السوداني ودورها غير الموجود على أرض العراق من جهة أخرى. تبدو حرب غزّة فرصة لا تعوّض كي تعرض إيران عضلاتها في المنطقة، بما في ذلك تهديد الملاحة في البحر الأحمر. ما لا مفرّ من الإعتراف به أنّ حرب غزّة أسفرت عن نجاح باهر لإيران في نقل معركتها مع إسرائيل إلى الداخل الإسرائيلي. لا وجود لأي مشروع سياسي إسرائيلي في الوقت الحاضر باستثناء تدمير غزّة وتحويلها أرضا لا حياة فيها. تعتبر ذلك خطوة على طريق تصفية القضيّة الفلسطينيّة. كذلك، لا وجود لأي مشروع سياسي لدى "حماس". صحيح أن الحركة، التي هي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين، استطاعت هزّ الكيان الإسرائيلي من أساسه، لكن الصحيح أيضا أنّ ليس لديها ما تفعله بهذا الإنتصار الذي هو هزيمة كبيرة لها ولفكرها... ولغزّة. عاجلا أم آجلا، سيترتب على الفلسطينيين التساؤل ما الذي فعلته بنا "حماس"؟ سيثبت الشعب الفلسطيني بكلّ الوسائل المتاحة لديه، وليس عبر الوسائل التي اتبعتها "حماس"، وجوده على ارض فلسطين. سيكون السؤال الكبير في المستقبل القريب هل لدى إدارة بايدن الخروج من ترددها، على الرغم من كل ما تمتلكه من نيات طبية؟ هل لديها القدرة على ممارسة دور قيادي؟ الأهم من ذلك كلّه، هل تستطيع الإدارة عقد صفقة مع إيران التي تجد نفسها مضطرة كلّ يوم إلى رفع سقف مطالبها من منطلق أن حرب غزّة فرصة لا تعوض بالنسبة إليها؟
مشاركة :