في الثاني من سبتمر لعام 2018 حصل حدث جلل في البرازيل أفقدها ذاكرتها وإرثها العريق الممتد إلى عصور قديمة تصل إلى ما قبل التاريخ، فقد اندلع حريق كبير في المتحف الوطني البرازيلي الكائن في مدينة ريو دي جانيرو التهم معظم معروضات المتحف البالغ عددها 20 مليون قطعة أثرية تعود إلى حضارات مختلفة يونانية ورومانية ومصرية، وآثار محلية للسكان الأصليين ومومياوات فرعونية ومن أميركا الجنوبية، ويضم كذلك قطعاً علمية نادرة وعدة أقسام طبيعية وأحجارا نيزكية، وأقدم حفريات بشرية في قارة أميركا الجنوبية عمرها يزيد على 12 ألف عام!! وهذا الحدث جعل البرازيل كلها في حالة قاتمة من الحزن، حيث عبرت عن تلك المشاعر بعد الحادثة مواطنة كأنها تكلمت بلسان الجميع، إذ قالت: «احترق جزء من تاريخ وطني، فهذا المتحف كان في يوم من الأيام مقراً لإقامة العائلة المالكة، كيف يتحول تاريخ بلدي إلى رماد؟ أنا في حالة يأس!». ويعدّ ما حصل خسارة للبرازيل والبشرية جمعاء، أفقدت التاريخ حلقة من حلقاته، وضاع على إثرها جزء من تاريخ البشر على هذا الكوكب للأبد! فقد وصف الرئيس البرازيلي ميشيل تامر الحادثة بأن خسائرها لا تقدر بثمن، وأنه يوم مأساوي لعلم المتاحف في بلدنا، خسرنا فيه 200 عام من البحث والمعرفة والعلم. وقد سمعت عن هذا الموضوع منذ مدة لكن لم أبحث عنه ظناً مني أن المباني التاريخية والثقافية ذات أهمية خاصة من قبل الحكومات، ومهما حصل من حوادث تكون عابرة وخسائرها لا تذكر لأنها تمثل هوية البلد، ومن فترة قريبة قرأت في الموضوع فوجدت أنه حدث عظيم يندى له الجبين، وخسائره تفقد الدولة تاريخها واقتصادها معاً، فهذا المتحف بما فيه من كنوز كان قبلة ثقافية لكل مهتم بالتاريخ والآثار والعلوم الطبيعية، وكان وسيلة تنشيط للسياحة الثقافية، وما حصل أدى إلى فقدان 200 عام من سنوات البحث والتنقيب والمعرفة وجهود جبارة كُرست خلال تلك السنوات وضاعت في مهب الريح وكأنها لم تكن يوماً. وللأسف أن سبب هذا كله ماس كهربائي بسبب أسلاك مكشوفة نتجت عن (الإهمال) وعدم الصيانة الدورية للمتحف، وضعف الميزانية المقدمة لهذا الصرح الذي يحوي أرشيف الدولة المادي، ويثبت أن لها وجوداً وحضارة وتاريخاً عريقاً موغلاً في القدم، فكيف يعرف الإنسان تاريخ دولة ما وأهميتها إلا من خلال أمرين إما وثائقها المكتوبة أو آثارها الباقية لنا من الأجداد والحضارات التي سادت ثم بادت، فالمتاحف الآثارية هي روح الدولة وتاريخها، ويجب النظر لها بجدية لا متناهية؟ فكل متحف يضم أرشيف الدولة المادي يجب أن يحتوي على نظام أمن وسلامة مرن وذكي شامل، لكل أقسام المبنى بمحتوياته، يتوافق مع معاير السلامة العالمية للمتاحف، ويجب أن تحفظ الآثار والمخطوطات بطريقة تجعلها في مأمن دائم مهما حصل من حوادث حتى لا يضيع تاريخ وجهود كبيرة. وعن هذا الموضوع أختتم بكلام العم إبراهيم البغلي الذي تشرفت بمحاورته، وهو ثالث مدير لمتحف الكويت الوطني، والذي كان له فضل في استرجاع القطع الأثرية الكويتية المسروقة من الدنمارك، وله عدة بوادر وطنية، حيث ذكر أن «للمتاحف الآثارية قيمة عظيمة ويجب أن تكون هيئات مستقلة أو تبع أكبر سلطة إدارية بالبلد لأهميتها التاريخية، ويجب أن يكون لديها ميزانية خاصة وللمدير الصلاحية التامة وأن تحفظ حقوقها ويفعل دورها على مستوى الدولة».
مشاركة :