إن من يقرأ الفقه الإسلامي وما تولد عنه من فكر وسطي راعى في صيرورته المقاصد واليسر والمصلحة فنتج عنه خطاب قابل للمعايشة والتطور، ولا أتحدث هنا عن ربع العبادات المتمثل في الصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد، فهذا باب قد استقر ونضج، وإنما أتحدث عن الثلاثة أرباع الأخرى والتي يجب أن يجتهد فيها المجتهد مراعياً فيها مقاصد الشارع والمصلحة وهنا يتضح فقه الفقيه وقدرته على الترجيح، وهي أبواب مهمة في تراثنا الفقهي، وللأسف إن هنالك من رمى وراء ظهره كتب الفقه وأصوله واقتصر على متون الحديث بشروحها وادعى قدرته على استنباط الأحكام مباشرة من النصوص وهذا قول مبتدع شاع منذ فترة بين شباب الصحوة مما أدى إلى البدعة والشذوذ والطيش. إن استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وأفعال الصحابة والإجماع أمر مطلوب ولكن له أدوات يجب أن تتوفر فيمن يستنبط الأحكام وهنا يجب أن نتلمس أمرين كانا إرهاصاً لأفكار الجماعات المتطرفة بعد ذلك. في بدايات السبعينات تقريباً من القرن الماضي ازدهر مصطلحان كان لهما تأثير على أفكار الجماعات الإسلامية، أما المصطلح الأول فهو مصطلح الحاكمية وتبنته وقتها تيارات الإسلام السياسي المنتسبة لسيد قطب.. والمصطلح الثاني هو (اللامذهبية) وتبناه تيار أهل الحديث المنتسبين للشيخ محمد ناصر الدين الألباني في بدايات السبعينات تقريباً من القرن الماضي ازدهر مصطلحان كان لهما تأثير على أفكار الجماعات الإسلامية، أما المصطلح الأول فهو مصطلح الحاكمية وتبنته وقتها تيارات الإسلام السياسي المنتسبة لسيد قطب هذا المصطلح كان له دور فعال في تكفير الأفراد والمجتمعات والحكومات ولم يسلم منه حتى العلماء، وكان أول من تبناه من المجموعات المجموعة التي كانت حول سيد قطب من الجهاز الخاص وأفراد متحمسون من الشباب(أطلق عليهم بعد ذلك القطبيون) وهم الشباب الذين كتب لهم سيد قطب كتاب (معالم في الطريق) يقول سيد قطب في مقدمة كتاب معالم في الطريق (.. فكيف تبدأ عملية البعث الإسلامي؟). إنه لابد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق. تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعًا. تمضي وهي تزاول نوعاً من العزلة من جانب، ونوعًا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة.. ولابد لهذه الطليعة التي تعزم هذه العزمة من "معالم في الطريق" معالم تعرف منها طبيعة دورها، وحقيقة وظيفتها، وصلب غايتها. ونقطة البدء في الرحلة الطويلة.. كما تعرف منها طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب في الأرض جميعًا.. أين تلتقي مع الناس وأين تفترق؟ ما خصائصها هي وما خصائص الجاهلية من حولها ؟ كيف تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة الإسلام وفيم تخاطبها؟ ثم تعرف من أين تتلقى – في هذا كله – وكيف تتلقى؟ هذه المعالم لابد أن تقام من المصدر الأول لهذه العقيدة.. القرآن.. ومن توجيهاته الأساسية، ومن التصور الذي أنشأه في نفوس الصفوة المختارة، التي صنع الله بها في الأرض ما شاء أن يصنع، والتي حولت خط سير التاريخ مرة إلى حيث شاء الله أن يسير. لهذه الطليعة المرجوة المرتقبة كتبت "معالم في الطريق"). والمصطلح الثاني هو (اللامذهبية) وتبناه تيار أهل الحديث المنتسبين للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ويطلقون على أنفسهم السلفيين وبعضهم اطلق على نفسه السلفية المحتسبة كما هو حال الجماعة التي نشأت وقتها في الحرة الشرقية في المدينة المنورة وهي دعوة للأخذ بالكتاب والسنة من مصادرها الأصلية ونبذ التمذهب الفقهي ومحاربته وأستطيع الجزم أنه لا يوجد لدى هذه الجماعة أي أدوات توصل إلى فهم النص فهم في دروسهم لا يدرسون اللغة العربية نحواً وصرفاً وغريباً ولا يدرسون أصول الفقه ولا يتعاطون مع فقه الخلاف بشكل علمي لقد كانت هذه الجماعة دعاواها عريضة واطلاعها محدود جداً. كما أن هذا المصطلح كان له دور مهم في الحط من قيمة العلماء وتتبع أقوالهم والرد عليها باسم اتباع الكتاب والسنة داخل الجماعة فظهرت المعارك الفقهية والكيدية بينهم وبين مجموعة من العلماء كما وقفوا إلى صف محمد ناصر الدين الألباني في جميع معاركه الكيدية والعلمية وخالفوه في مسألة واحدة وهي حجاب المرأة. ما أريد قوله إنه في الوقت الذي ظهر به مصطلح الحاكمية هو نفس الوقت الذي ظهر فيه تيار اللامذهبية وذلك في طوال مرحلة السبعينات من القرن الماضي وكانا متوازيين يسيران جنباً إلى جنب في نفس المرحلة وقتها كان هذان المصطلحان جديدين على التيار المتدين ولم يكن هنالك من يرد على هذين المصطلحين بل لم يكن هنالك من حاربهما، وعلى العكس من ذلك تم تبني هذين المصطلحين من تيار عريض من شباب الصحوة وقتها وبارتفاع وتيرة هذين القولين أدى القول باللامذهبية مثلاً إلى الجرأة على العلماء بل أصبح العلم الشرعي شعبياً بامتياز وأصبح صغار الطلبة يجادلون ويتخذون الموقف ضد الشيخ فلان أو غيره وأصبح شرط العلوم الشرعية أكثر يسراً مما كان عليه سابقا فتجد من لم يحفط القرآن والسنن أصبح يشار له بالبنان على أنه طالب علم وفقيه متميز. أما مصطلح الحاكمية فقد جرُؤ قطاع عريض من شباب الصحوة على ولاة الأمر والمؤسسة الدينية الرسمية وقتها وأصبح الولاء للوسطية عند بعض شباب الصحوة تخاذلاً. وتم بعد ذلك المزاوجة بينهما في مرحلة الثمانينات من القرن الماضي من خلال فكر محمد سرور زين العابدين الذي تبناه تيار البعض من شباب الصحوة خصوصاً في مرحلة ما بعد وصول الخميني للحكم في إيران وتأييد الإخوان المسلمين التنظيم الدولي لها واعتراض قطاع عريض من إخوان الخليج على هذ التوجه البراغماتي للجماعة. ما أريد قوله هنا أن هذين المصطلحين وتبنيهما من قبل بعض شباب الصحوة كان لهما دور فعال في التطرف الذي نشهده في هذه الأيام.
مشاركة :