المجادلة التي يتبناها هذا المقال تعترف بحجم الاختلاف الكبير في الرؤية الخاصة لكل بلد عربي تجاه القضية الفلسطينية، وهذا ما انعكس أيضا على الشعوب العربية التي خضعت لتأثيرات العولمة بعنوانها الأكبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي كشفت الاختلافات داخل شبكة المواقف العربية، في هذا المقال أجادل حول تأثير غياب استراتيجية احتواء للقضية التي تطايرت عبر فضاء الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بكل مقوماتها السياسية والعاطفية والعقدية، فلم تعد أروقة المناقشة لهذه القضية محتكرة لصالح السياسة، فاللافت للانتباه تلك التقنيات التي أصبحت مواقع للصراع حول قضية العرب الأولى. السؤال الأكثر إثارة هو: هل لدى العرب استراتيجية احتواء متفق عليها يستطيعون عبرها دعم القضية الفلسطينية للحصول على حقوقها المشروعة، أم أن المسارات الفردية لكل دولة عربية خلقت إعصار التفاوت في الرؤية العربية لفلسطين؟، لقد كانت خلفيات الأحداث بعد السابع من أكتوبر نموذجا مثيرا لصورة القضية، فسياسات الدول العربية وحساسيتها تجاه القضية الفلسطينة لم تعد تحت السيطرة، فالشعوب أصبحت تمتلك وسائل تعبير مؤثرة كشفت الكثير من الثغرات في زاوية تقييم القضية الفلسطينية. من تجارب التاريخ لإستراتيجيات الاحتواء ما قامت به أمريكا، عندما اندلعت حرب أهلية في اليونان في عام 1946م، وكان الخوف من انتصار شيوعي ضد الحكومة المدعومة من بريطانيا التي أعلنت عجزها عن مساعدة اليونان وتركيا، وهنا تدخلت أمريكا حيث طلب الرئيس ترومان من الكونغرس الدعم بأربع مئة مليون دولار من المساعدات العسكرية والاقتصادية، من هنا انطلقت عقيدة الاحتواء للرئيس ترومان، أمريكا اليوم حاضرة في القضية الفلسطينية بقوة واللغة المطلوبة عربيا هي لغة الاحتواء التي يجب أن يتبناها العرب كعقيدة يمكنها المحافظة على الأرض والمطالبة بدولة فلسطينية في مقابل دولة إسرائيلية وهذا هو الخيار المتاح؛ لأن خيارات غير واقعية مثل إزالة إسرائيل أو الحرب معها لن تنجح. هناك متطلبات حيوية لبناء عقيدة ومنهج سياسي عربي لاحتواء القضية الفلسطينية، بعيدا عن الطموحات غير العقلانية التي يتم تداولتها في الفضاء العربي، فالواقع يقول إنه مع كل أزمة مشابهة لما حدث في السابع من أكتوبر تحقق القضية خسائر أكبر، لأن الحالة السائلة التي تسير بها القضية الفلسطينية اليوم مخيفة، بل مقلقة ولها مخاطر مستقبلية ليس على أرض فلسطين بل على المنطقة بأكملها، والسبب في هذه الحالة عدم وجود إجابة متفق عليها من الجميع حول ماذا نريد لفلسطين؟ الصيغة التحاورية سياسيا وشعبيا التي تعيشها القضية الفلسطينية اليوم هي أكثر الصيغ خطورة عبر ثمانية عقود مضت، وهي تتويج طبيعي لغياب أي استراتيجية لاحتواء القضية وحمايتها من تدخلات الآخرين من الغرباء، لقد كانت لغة الحرب في عام 1967م هي إحدى اللغات التي تدفع القضية ثمنها إلى اليوم وبنفس النتائج تكمل فكرة المقاومة غياب أي استراتيجية لاحتواء القضية. على المستويين السياسي والشعبي العربي والإسلامي هناك تفاوت شديد الظهور حول سؤال (ماذا نريد لفلسطين؟) هناك من يريد دولة فلسطينية مستقلة بجانب إسرائيل، وهؤلاء هم الواقعيون الذين يحملون في مفاهيمهم السياسية استراتيجية احتواء تحافظ على الأرض والشعب والتاريخ والمنطقة بأكملها عبر منظار عقلاني، على الجانب الآخر هناك من يعتقد أن الصراع يسير لصالح القضية، وأن الحرب تحقق النتائج، بينما الواقع يخالف ذلك فحجم إسرائيل اليوم أضعاف حجمها قبل عقود وهذا المسار تفضل إسرائيل سيره كونها ستحصل على كل الأرض في نهاية المطاف. مع وسائل التواصل الاجتماعي حصلت القضية على واقع أكثر إيلاماً، فحالة الذوبان الاستراتيجي للقضية كانت واضحة في قراءة المشهد فقد تناحرت الصور بين بعضها حول إجابة عن سؤال (ماذا نريد لفلسطين؟) وتفاوتت القضية بين راغب في المقاومة واضعاً أمامه تجارب تاريخية، وبين راغب في حقن الدماء دون أن يدرك استحالة هذا المسار في ظل غياب هدف متفق عليه من الجميع، وبين مستثمر سياسي يضع مصالحه فوق عربة القضية، هؤلاء جميعا ينسون أيضا أن هناك تجارب تاريخية حققت نجاحات على حساب الشعوب الأصلية للأرض التي تم احتلالها والتاريخ مليء بمثل هذه الشواهد. القضية الفلسطينية بحاجة إلى عقيدة يتم الاتفاق حولها وتبنيها عبر مشروع سياسي لاحتوائها، واستراتيجية تؤمن بها الدول والشعوب معاً تقوم على الدفع باتجاه دولة فلسطينية مستقلة، لأن التشعب والحالة السائلة التي تتعرض لها القضية الفلسطينية اليوم سوف تنتج مساراً للانقراض التدريجي للقضية بكل مكوناتها الأرض والتاريخ، وهذه ليست مبالغة لأنه فقط بالعودة ثمانية عقود إلى الخلف سوف نكتشف أننا نسير إلى الاتجاه ذاته، وكل ما يجب أن نخشاه أن نصحو ونجد أن القضية قد ابتلعها غيابنا عن بناء استراتيجية احتواء واضحة.
مشاركة :