بقلم: بيير غروسر في هذه السنوات الأخيرة، وفي ظل تنامي التنافس بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة منذ يوم 24 فبراير 2022، في سياق العلاقات الروسية الغربية، فإن الحديث عن عودة الحرب الباردة أصبح يفرض نفسه بأكثر قوة. ولعل من أهم الجوانب الرئيسية لعودة خطاب الحرب الباردة هو الاستخدام المتكرر لصيغة «عدم الانحياز»، في إشارة إلى الحركة التي تحمل الاسم الذي تم تثبيته في عام 1961، والتي لاتزال موجودة رسميًا وهي تضم اليوم ما لا يقل عن 118 دولة، وقد عقدت آخر قمة لها في العاصمة باكو بجمهورية أذربيجان في عام 2019. أما اليوم، وكما كان الأمر في تلك الفترة التاريخية يرفض عدد معين من دول «الجنوب» الانضمام إلى هذا المعسكر أو ذاك، وقد بدأت هذه الدول تقترب من بعضها البعض تأكيدا لمصالحها الحيوية. خلال فترة الحرب الباردة، أصبحت حركة عدم الانحياز مدعومة من سلطات موسكو في ظل الاتحاد السوفيتي، وقد أعربت سلطات الكرملين عن استيائها في الوقت الحالي من انضمام عدد من دول الجنوب إلى العقوبات المفروضة ضدها وإدانتها للغزو العسكري الروسي لأوكرانيا. لعل من الأجدر أن نعيد تسليط الضوء على جوانب أساسية من تاريخ حركة عدم الانحياز خلال فترة الحرب الباردة حتى نفهم طبيعة هذه الحركة ومعرفة الأبعاد التي لا تزال ذات دلالة وأهمية حتى اليوم. لقد كان عدم الانحياز بمثابة أسطورة موحدة للعديد من قادة الحركة والأنظمة (لا سيما اليوغوسلافية والجزائر) والتي، من خلال التصاقها بهذا المفهوم، تعزز الوضع الدولي والشرعية الداخلية. لم يتم عقد مؤتمر خلال النصف الثاني من سنوات الستينيات من القرن العشرين بعد تلك القمة التي احتضنتها القاهرة في 1964: تم تكريس حركة عدم الانحياز مؤسساتيا ما بين المؤتمرين اللذين عقدا في لوساكا (1970) والجزائر (1973). عقد المؤتمر الأول لحركة عدم الانحياز في عام 1961 في بلغراد بالجمهورية اليوغوسلافية. لا شك أن مؤتمر باندونغ الشهير (1955) قد أعطى بعدا مهما لحركة عدم الانحياز، وقد عقد ذلك المؤتمر على وجه الخصوص بمشاركة الهند والصين بعد إنشاء منظمة آسيا الجنوبية الشرقية (OTASE) من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في شهر سبتمبر 1954. مع ذلك لم يحل ذلك دون الانضمام إلى التحالفات، ناهيك وأن عددا من الدول المنتمية الى حركة عدم الانحياز والمتحالفة في الوقت نفسه مع الولايات المتحدة الأمريكية قد أدانت الإمبريالية الشيوعية. منذ عام 1959، أدت التوترات بين الصين والهند، بالإضافة إلى وقوع الحرب بين البلدين في عام 1962، إلى مواجهة بين الحركة الأفروآسيوية، من خلال الصين (وإندونيسيا)، وحركة عدم الانحياز التي كانت الهند أحد قادتها. عاد الانقسام الصيني السوفييتي إلى الظهور ليزيد في تعقيد المشهد السياسي. المواجهة ما بين «الراديكاليين» من جهة أولى و«المعتدلين» من جهة أخرى، وهي المواجهة التي بدأت منذ عام 1960 وحتى نهاية سنة 1970. أدى فشل الصين (إندونيسا) إلى عقد «المؤتمر الثاني في باندونغ» في الجزائر في عام 1965وقد أظهر ذلك المؤتمر مدى المأزق والانقسامات التي تردت فيها العلاقات الآفروآسيوية. وقد نشبت الخلافات في وجهات النظر والمواقف وتعمقت الانقسامات حتى فيما بين «الرادياكاليين» أنفسهم في صلب حركة عدم الانحياز. من الخلافات العميقة كان الرئيس الغاني كوامي نكروما، الذي تولى مقاليد الرئاسة عام 1966 وكان أكثر عداوة لتأثير الأفكار الغربية (الغربية أو الشرقية) من أحمد بن بلة (الرئيس الأول للجزائر، من 1963 إلى 1965)، والذي كان يؤكد ضرورة التركيز على التنمية، كما أنه كان يريد توظيف حركة عدم الانحياز للحصول على الموارد المالية من كلا المعسكرين. أما بالنسبة لمجموعة أخرى من دول عدم الانحياز، مثل أفغانستان، فقد كانت تؤكد بدورها وضوح الهدف الرئيسي. عرفت الحركة بعمر معين في بدايات عام 1970، وأثرت كثيرا على الأجندة الدولية، بما في ذلك الترويج لنظام اقتصادي دولي جديد، وتحركت أيضًا منظمة الأمم المتحدة من خلال مجموعة الـ77، التي تم إنشاؤها في عام 1964 من أجل أن يكون للدول السائرة في طريق النمو ثقلا ودورا مؤثرا أيضا في صلب هذه المنظمة. في تلك الحقبة ظهر قادة جدد كان من ضمنهم رئيس جمهورية تنزانيا جوليوس نيريري. بدأت الهند في الانحياز إلى الاتحاد السوفيتي منذ عام 1971، لا سيما ضد الصين، فيما أصبحت مصر تميل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم التأمت قمة عام 1979 في هافانا بجمهورية كوبا، وهو ما لم يعجب ما لا يقل عن 93 دولة عضوة في حركة عدم الانحياز، حيث إنها كانت تخشى أن تسقط هذه الحركة في فلك الاتحاد السوفيتي. أدى الغزو السوفيتي لأفغانستان مع نهاية تلك السنة إلى استياء كثير من دول حركة عدم الانحياز، وكانت جمهورية ميانمار (بورما سابقا) أول دولة تغادر حركة عدم الانحياز طواعية. كان الرئيس اليوغسلافي تيتو آخر شخصية تاريخية في الحركة، وقد توفي سنة 1980، كما كانت الدبلوماسية اليوغوسلافية تلعب دورا نشطا في بلدان الجنوب النشط في بلدان الجنوب غير أنها أبانت عن حدودها. كانت بلغراد تتخوف من المواقف الراديكالية الكوبية وهو ما جعلها تقترب من كل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين وبلدان السوق الأوروبية المشتركة. علاوة على ذلك، في هذه الفترة التي شهدت صدمة نفطية مزدوجة، أصبحت دول الجنوب غير النفطية تنتقد منظمة الدول المنتجة والمصدرة للنفط (أوبيك) والتي ينتمي بعضها إلى حركة عدم الانحياز. أدت الصراعات بين الجنوب والجنوب إلى نشوب توترات: غزو أوغندا من تنزانيا وكمبوديا من جانب فيتنام، في عام 1978، وعزلة مصر في العالم العربي بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل، إضافة إلى اندلاع الحرب بين العراق وإيران في سنة 1980 وقد أفشلت طهران فكرة عقد قمة لحركة عدم الانحياز في بغداد سنة 1982. وكانت كوبا والهند معاديتين للصين، ولا تدينان التدخل السوفيتي في أفغانستان، وتدعمان فيتنام التي تغزو كمبوديا، كما أنهما تتحاملان على بلدان الجنوب التي تدعم المقاومة (الصين وباكستان وبلدان رابطة الآسيان). في بداية سنوات 1980، استفاد عدد من دول الجنوب من العودة إلى الحرب الباردة بشكل نهائي في نهاية الانفراج من أجل الاستفادة من التقارب مع إحدى الدولتين العملاقتين، وبالتالي تحقيق فوائد اقتصادية واستراتيجيّة. فضل البعض من هذه الدول أشكال البناء الإقليمية التي تسهم في تجزئة الجنوب، وهو ما جعل حركة عدم الانحياز تفقد رؤيتها وهويتها. هل توحدت دول الجنوب اليوم في مواجهة الغرب؟ إنه سؤال كبير بدأ يطرح في الآونة الأخيرة حول انفصال العالم تدريجيا عن الغرب وتأكيد الجنوب لذاته، من خلال ما يسمى البلدان «الناشئة» - والتي ظهرت بعد أكثر من عقود من الزمن وأصبحت تسهم بشكل فاعل في نمو الاقتصادي العالمي. بعض المثقفين الإندونيسيين يريدون، في أحد الأيام، تسمية حركة عدم الانحياز باسم «حركة تضامن الجنوب». تتطلع الصين إلى مطالبها القديمة بممارسة قيادة الجنوب، مع تقديرها للأشكال الثنائية بالإضافة إلى المنظمات الإقليمية. وبينما يزداد الرهان التاريخي على العلاقات بين الشرق والجنوب في زمن الحرب الباردة، تلعب روسيا أيضًا بورقة التضامن الدولي، لا سيما في إفريقيا، حيث يؤكد وزير الخارجية الروسي ضرورة تحقيق المساواة بين الدول، فيما تواجه روسيا الكثير من التحديات. يتم الترويج لتوسع مجموعة البريكس في الوقت الحاضر على أنه يمثل انتقاما حكيما من بلدان الجنوب من الغرب الاستعماري، وهو ما يفضي بشكل أو بآخر إلى الاصطفاف وراء قيادة بيكين وموسكو، في إطار حملة مناهضة للأحادية القطبية وأحادية الولايات المتحدة الأمريكية، وفرض «القيم» الغربية وتصدير الديمقراطية، والمزيد من مكافحة هيمنة الغرب والنزعة التوسعية للحلف الأطلنطي. جنوب العالم هوية مشتركة أو إرادة للبحث عن مشروع مشترك رغم هذا التقارب الذي نجده ما بينها. قليلة هي البلدان التي يمكن أن تتحدث إلى العالم كله لتجنب تعميق الهوة بين الشمال والجنوب وبين الغرب والاصطفاف مع الصين وروسيا. كومونز
مشاركة :