عزان بن حمد المعولي "عندما اقتحم الجنود اليهود القرية رشقوا البيوت بنيران المدافع الرشاشة متسببين بقتل كثير من سكانها ومن ثم جمعوا بقية القرويين في مكان واحد وقتلوهم بدم بارد وانتهكوا حرمة أجسادهم، في حين اغتُصب عدد من النساء ومن ثم قُتِلن، روى فهيم زيدان الذي كان عمره آنذاك اثني عشر عامًا كيف رأى بأم عينيه عائلته تُقتل: أخرجونا واحدا تلو الآخر قتلوا رجلا عجوزا بالرصاص وعندما بكت إحدى بناته قتلوها هي أيضًا، ثم استدعوا شقيقي محمد وقتلوه أمامنا وعندما صرخت أمي باكية وهي منحنية فوقه وبين ذراعيها أختي الرضيعة خضرة، قتلوها هي أيضًا". ليس هذا النص اقتباسًا من رواية درامية أو تجسيدا لمشهد سينمائي، بل هي رواية واحدة تصور أحداثًا حقيقية لجرائم الإبادة والتطهير العرقي التي ارتكبها الجيش الصهيوني في طليعة احتلاله لأرض فلسطين، يوثق المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، المقيم في المملكة المتحدة والمُعارض البارز للصهيونية في كتابه "التطهير العرقي لفلسطين.. فظائع الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني الأعزل"، من خلال شهادات يرويها ناجون فلسطينيون أو من خلال وثائق إسرائيلية بريطانية مؤرشفة. وكان من الممكن أن يشكك في هذه الرواية على سبيل المثال متحضر غربي يتقن تدليس السياسيين ومكرهم، ويتابع قنوات السي أن أن وفوكس وغيرها ويثق بإسرائيل ثقة عمياء وله قاعدة شعبية عريضة من المتابعين، لكن ذلك كان قبل الحرب المُستمرة على غزة، فقد اختلف الوضع اليوم تمامُا لأن قوة العدسة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي فرضت على العالم تصديق مثل هذه الروايات، حيث يرفع الطفل الفلسطيني البسيط عدسة هاتفه ويصور الجحيم الهاطل من فوقه كالمطر وهو يصرخ تحيا فلسطين. يشهد العالم إذن على إعادة تصوير مشاهد النكبة الفلسطينية بإبادة أهل غزة ومحاصرتهم واستهداف الأطفال والنساء للانتقام من المقاومين والصحفيين والأطفال في ضحكاتهم، ويحدث هذا في اللحظة الآنية في عام 2023. في المقابل يروي الصحفي الصهيوني عاميت سيغال حكاية إسرائيل في كتابه قصة السياسة الإسرائيلية من بن جوريون حتى بينيت المترجم إلى اللغة العربية والصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ولا يخفي المؤلف صهيونيته وتطرفه لفكرة الأرض الموعودة للشعب اليهودي حتى لو كانت تلك الفكرة وليدة العقل الأوروبي الحديث الذي أراد إخراج اليهود من القارة الأوروبية عندما اكتشف الخطأ اللاواقعي في هولوكست أدولف هتلر، لكن إسرائيل بالنسبة لعاميت ليست طردا أوروبيا لليهود إلى أرضهم الموعودة بل إنها تمثل فكرة الوكيل الأوروبي في الشرق الأوسط، يقول متفاخرا: خُطِّطَت دولة إسرائيل على طاولة الرسم في أوروبا لتكون وكيلا أوروبيا.. بُنِيَت في عجالة بأوامر من رجل واحد". وإذا كان الأمر كذلك فليس بمستغرب تصنيف الكاتب لأهل فلسطين وجوارهم العربي بصفة العدو العربي، لا لشيء سوى أنهم أهل الأرض التي قرر رجل أوروبي واحد أنها دولة للصهيونية وسط المجتمع العربي، يقر الكاتب باحتلال فلسطين وكأنه حق لا لبس فيه فالظالم هنا هو صاحب الأرض بالضرورة، والمظلوم هو القادم من بعيد لاحتلال الأرض وتهجير وقتل أصحابها، من ثم فلا غرابة في قوله: "كانت الجلسة التي حددت طريقة اختيار الشعب الإسرائيلي ممثليه في أواخر عام 1948 قصيرة جداً وشارك فيها 3 أشخاص فقط، هُم: بن جوريون رئيس الوزراء الأول، وإسحاق غرينبويم وزير الداخلية، وبنحاس روزن وزير العدل، ويمكن تفهم سبب العجلة، إذ كانوا يحتاجون إلى اختيار شعار للدولة وجلب مهاجرين جُدد على أجنحة الطائرات والسفن المتهالكة وشق الطريق نحو القدس واستئصال العدو العربي وكل ذلك قبل وجبة الغداء. ص 26". بالنسبة للمؤلف فإنَّ احتلال فلسطين وإبادة الشعب الفلسطيني الأعزل وتهجيره من وطنه وممارسة الفصل العنصري عليه، تمثل إنجازات عسكرية للجيش الإسرائيلي بوصف قادتها كأبطال وطنيين حتى لو كان ذلك الجيش تحت مظلة الجيوش الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وغيرها الداعمة لتأسيس دولة الاحتلال واستمرارية التوسع الاستيطاني فيقول: "قاد الحزب الحاكم الدولة إلى إنجاز تلو الآخر في ميدان القتال، فتحت قيادته وسعت حدود الدولة بشكل كبير خلال حرب الاستقلال وبعد ذلك بثماني سنوات احتل الجيش الإسرائيلي غزة وسيناء في عملية مشتركة مع فرنسا وبريطانيا بأوامر من الحزب، وبلا شك وصل الحزب إلى ذروة مجده في حرب الأيام الستة وجعل الانتصار المدوي على الدول العربية كلها قادة الجيش شخصيات مشهورة" ص 64"، "المستوطنات تتزايد والوضع الأمني صامد وهذا نتيجة لسياسات متزنة وشجاعة" ص 65. "وحتى لو كان هؤلاء القادة يسرقون في الخفاء آثار التاريخ المصري العظيم فهو جزء لا يتجزأ عن السياسة المتزنة الشجاعة في عصر لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي تفضح فيه ممارسات كيان الاحتلال كما هو اليوم وهو ما يعلق عليه المؤلف بقوله: "كانت جولدا مائير السيدة الوحيدة في الحكومة ودأب دايان [موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي] على سرقة الآثار المصرية في سيناء دون أن يغرد أحد". لكن قصة سياسة التوسع الاستيطاني المتزنة والشجاعة- حسب تعبير عاميت- مبتورة ومُضلِّلة، فخلف الكلمات تختفي مأساة الإبادة للفلسطينيين وتهجيرهم والاستيلاء على بيوتهم وممتلكاتهم ومزارعهم، وليس ذلك بغريب على السياسة الإسرائيلية التي تخفي الحقيقة بقناع من المكر والكذب، تختبئ قصة التضليل للحقائق عند إسرائيل في ثنايا التصريحات السياسية كل مرة، وهذه المرة يعترف عاميت مثلا بأن إسرائيل بدأت بكذبة وهو يصفها بالإنجاز السياسي لبن جوريون أول رئيس وزراء إسرائيل، يقول: "ومنذ البداية.. دفع بن جوريون مهاجرين لا يملكون شيئا من الولايات المتحدة وبلاد الشرق إلى استيطان الصحراء وأجبر مسؤلي الجيش على تغيير أسماء عائلاتهم لأنه اعتقد أن الجنود العبريين يجب ألا يقودهم إلا ضباط بأسماء عبرية". لكن من هم العرب في النصوص الإسرائيلية خلافا للمسلمة الضرورية والبديهية أن العربي هو العدو، استغرب المجتمع المتحضر وصف يوآف غالانت وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي للفلسطينيين بقوله: "لقد أمرت بفرض حصار كامل على غزة. لن يكون هناك كهرباء ولا طعام، نحن نقاتل الحيوانات البشرية ونتصرف وفقا لذلك"، لكن هذا التعبير يرد أيضا على كلمات مؤلف الكتاب في صورة سينمائية تصور العرب بحيوانات مفترسة في غابة تتربص ببيت فاخر وسط هذه الغابة، يقول: "اشتعلت النيران في الغابة المذكورة في المثل المشهور: إسرائيل فيلا في غابة، وخرجت عن السيطرة وحينها تحديدا أغلق الإسرائيليون الذين نظروا من النافذة إلى الغابة لمدة 60 عاما بتوتر لرؤية هل كانت هناك حيوانات مفترسة أو سامة المصراعين في حالة من اليأس". ولعلي اختتم هذا المقال باقتباس للمؤلف نفسه في استشرافه لمستقبل إسرائيل التي بدأت طلائعه تبدو واقعية أكثر من أي وقت مضى. "قلبنا في الغرب ولكننا نسكن الشرق الأوسط.. ومن حولنا يتحدثون العربية بعدد لا يحصى من اللهجات.. ويكمن لدينا خوف رهيب تحت غطاء غربي أن نستيقظ صباح يوم ما ونكتشف أن دولة إسرائيل قد اختفت ومن المؤكد أن هناك سببا تاريخيا لذلك..".
مشاركة :