إن أزمة المواطنية في المجتمع المقسم طائفياً، (وإن وجدت محاولات لتجاوزها ظاهرياً ولفظياً...) تتجلى من خلال استطلاع دور العوامل الاجتماعية والثقافية العديدة التي تكرس قيم الانحياز إلى الهويات الفرعية بدلاً من الانحياز إلى الوطن، ومنها التربية العائلية والثقافة الدينية الطائفية والثقافة السياسية التي تنتجها المؤسسات الدينية والأحزاب الطائفية، ولذلك لم يعد غريباً أن نجد اليوم من يحاولون جاهدين، وبلا هوادة، استبعاد المواطنة كأساس للتعايش والعيش المشترك، ويقترحون علينا - حلولاً بديلة يحتمون بها ويرفعون راياتها وسناجقها - ولذلك يعمدون، في سبيل تكريس مصالحهم الضيقة أو رؤيتهم العابرة للواقع، إلى تخويف الناس من أن يكونوا مواطنين أفراداً أحراراً، يتمتعون بحرية فكرهم واختيارهم، ويدعونهم في المقابل إلى انتماء هلامي خارج سياق الواقع وطاقة احتماله. إنهم لا يريدونها مواطنية بل يريدونها إما طائفية محصنة ضددولة الوطن، وإما مواطنية عالمية، عابرة للزمان والمكان، تحت مظلة أيديولوجيا الإسلام السياسي. وحين تبدأ المجتمعات بالتعبير عن نفسها بهويات طائفية خارقة للواقع ومتجاوزة له، تبدأ الأوطان بالانتهاء، وتبدأ الدول بالتفكك والاضمحلال والدخول في النفق المظلم من الانقسامات والصراعات والمواجهات الكراهيات المنظمة، ووقتها، ومهما بالغنا في الحديث عن الحوار والتسامح، فإننا في ظل هذه البنى الصاعدة، وما تولده من خطاب استعلائي ومن ممارسات عنيفة مسلحة، فلن يفيدنا ذلك كثيراً، لأننا سنكون وقتها كمن يعالج السرطان بالبنادول. ففي ظل هكذا ثقافة خطاب كهذا ورؤية كهذه، من الطبيعي أن يتم تعميق أسباب التصنيف الفئوي الطائفي، ومن الطبيعي أيضا أن لا نجد قاعدة للمساواة بين المواطنين على أساس هوياتهم الوطنية الجامعة، في مفارقة عجيبة بين ما يتم رفعه من شعارات بشأن الدولة المدنية الديمقراطية، وبين تكريس الطائفية الشاملة فكراً وشعاراً وممارسة وانعزالاً وتحالفاً (وهذا ما تفعله بالضبط الجمعيات السياسية الطائفية (ونلاحظ هنا - يا للغرابة - أن أكثر التيارات الطائفية هي من أصبح يزايد في الدعوة إلى الديمقراطية والدولة المدنية والتداول السلمي على السلطة إلخ القائمة الجاهزة للديمقراطية والحكم الرشيد والشفافية..!!!!!). إن المشتغلين بهذه المفارقة العجيبة دون أن يشعروا بأنهم في مأزق فكري وأخلاقي وسياسي وحتى وجودي، موجودون اليوم في جميع الطوائف، يتعيشون على المخاوف التي يزرعونها في الطريق في العقول والقلوب والذاكرات، مشكلتهم أنهم عندما يصوغون ما يعتقدونه مبادئاً وقيماً، يصوغونها وفق أفضل الصور النظرية الخلابة، وهم في أعماق أنفسهم وعقولهم وضمائرهم، يضمرون نقيض ما يعلنونه على الملأ، يراهنون على الغائب، يعلنون أنهم الأعلون وأنهم الأدرى بمصالح الأمة، والأعلم بالمقاصد الكبرى، وأنهم الأكثر فهماً ووعياً، وحرصاً على مصالح البلاد والعباد، في الوقت الذي يفرشون فيه الطريق للفوضى والحروب الطائفية وللنعرات التدميرية، من خلال طباعة ونشر قاموس المزايدة والشطط والتهويم والكذب على التاريخ ولي عنق الحقائق، من أجل تمرير أفكار ورؤى بائدة انتهت صلاحية استخدامها من قرون، لتتكشف بذلك حقيقة الإفلاس الفكري والسياسي، وذلك لأن مثل هذا النوع من الخطابات وهذا النوع من العقلية، جعلتنا اليوم نبدو في أنظار العالم كمن ينتابهم شعور جارف ولا عقلاني بالخوف على ما يسمونه بهويتنا، وكأننا مختلفون عن بقية خلق الله، هذا الشعور يكتسح الإعلام والفكر والخطب والشعارات المنتجة من جماعات متطرفة، ممن تأسست ثقافتهم في الظلام وراء الأبواب المغلقة، فتوهموا أنهم يعيشون لوحدهم في هذا العالم الفسيح، وان على العالم ان يستجيب لرؤيتهم لإعادة بنائه وتأسيسه على المنوال العابر للزمان والمكان والإنسان، بعكس حركة التاريخ الإنساني في مشارق الأرض ومغاربها. ولذلك وعند مواجهة مفهوم المواطنة كمشروع مدني، يطل هذا المفهوم من التاريخ مع تطور مضامينه وآليات تطبيقه تكريساً لمبدأي حرية الانتماء والمساواة في الحقوق والواجبات، ولكن في المجتمع المتعدد الطوائف، يشهد هذا المفهوم مفارقة ازدواجية الانتماء، يغيب فيها الوطن في الغالب عند أول مواجهة أو أزمة أو محنة، حيث تنتهي المعركة بهزيمة الوطن في أغلب الأحيان، ونرى ذلك اليوم مجسداً في بعض البلدان التي تخضع لهذه المواجهة الكارثية، حيث يختفي الوطن الذي يجمع مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وتتحدد الهويات والخطابات والصراعات والتحالفات على أساس الطائفة، بل وتتفجر الصراعات والاقتتال الدموي ترجمة دراماتيكية في كثير من الأحيان لهذا التخندق الطائفي.. وبالرغم من الإنكار الجماعي والتنكر المسرحي للطابع الطائفي للفكر ورفضه على صعيد الخطاب السياسي والاجتماعي والإعلامي والديني، فهو مكرس عملياً على ارض الواقع، ولا يمكن تجاهل هذا الطابع المرضي المتصاعد وما يطرحه من إشكاليات وتحديات خطيرة تواجه الطموح نحو بناءالمواطنية التي تعني الانتماء إلى هوية مشتركة ونمط عيش مشترك، وتوافق على العيش المشترك وفق أسس وطنية واضحة، وقد رأينا بوضوح مؤلم ما حدث ويحدث في العراق وسريا ومن قبلهما لبنان، حيث اختفت الدولة وحلت محلها الطوائف، واختفى الجيش الوطني وحلت محل.. إن نسق القيم الثقافي الذي نشأ ونما مع نشوء الشعور الوطني والقومي والإنساني التحرري يتعرض اليوم للانهيار في الحياة العامة، وفي الإعلام، في ثقافة التحقير المتبادل، وعدم القدرة على رؤية الأشياء كما هي، من خلال انفصال المعرفة عن الأخلاق وعن قضايا الناس وعن تحولات المجتمع والتحديات التي تواجهه، وعن العقلانية والوطنية والقومية والثوابت الجامعة. همس في كتابه عن الحرب اللبنانية من الانقسام الأهلي إلى الصراع الإقليمي الصادر العام 1994م باللغة الفرنسية، طرح الراحل سمير قصير سؤالاً مركزياً حول هوية الحرب اللبنانية التي اندلعت ذات يوم من العام الكئيب 1975م متسائلاً: هل كانت هذه الحرب حرباً أهلية أم كانت حربا غربية شجعها الغرب؟ وأجاب عن السؤال ببساطة: إن الشر يرمي بنفسه إلى خارج ذاته، مفضياً إلى خطابات التبرير والتعبئة ورفض تحمل المسؤولية عن النتائج الكارثية للمراهنة على الطائفية كآلية وكأفق، بعد فوات الأوان.
مشاركة :