أظن أنه لم تمر علينا مرحلة واضحة المعالم والسياسات والأهداف كالمرحلة التي يمر فيها الشرق الأوسط وربما العالم بأسره منذ 7 أكتوبر الماضي، يوم قررت إسرائيل مد حربها ضد فلسطين من الضفة الغربية إلى قطاع غزة. عشنا قبل هذا اليوم يوما بعد يوم على أخبار غزوات صغيرة ولكن شريرة وعنيفة ضد سكان مخيمات في جنين وغيرها من مدن الضفة. قبل السابع من أكتوبر تسربت إلينا شكوك، وبخاصة عندما اختار الإسرائيليون حكاما خارجين لتوهم من أزقة الدعوة الإرهابية إلى شوارع الممارسة. الأشخاص ربما كانوا جددا ولكن جذورهم امتدت في التاريخ المعاصر إلى سنوات هيمن فيها على ساحة المستوطنات جمعيات إرهابية هدفها دفع أهالي قرى فلسطينية إلى الرحيل والهجرة وفي النهاية إخلاء فلسطين لليهود. قبل حلول ذلك اليوم، يوم السابع من أكتوبر، كان قد تأكد لقادة جيوش إسرائيل أن التدرج في الحرب ضد فلسطين لم يعد مناسبا. شاركتهم هذا الاعتقاد قيادات سياسية وعسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الحلف الغربي، أي حلف الأطلسي. كثيرون في الغرب رحبوا بالحرب الجديدة ضد فلسطين. أغلبية هؤلاء اعتقدوا أن هذه الحرب لن تكلف ما تكلفته الحرب في أوكرانيا. لن تكون حربا بشعة إنسانيا واجتماعيا وأخلاقيا، وهي على كل حال وحسب بعض التفسيرات وأكثر المبررات حرب ضرورة. هي حرب آن أوانها ضد ما يطلقون عليه الإرهاب الإسلامي والمشرقي عموما. يكفي أن تدرك شعوب الغرب أن اليهود سوف يتولون نيابة عن الغرب مهمة تصفية القضية الفلسطينية وإعادة الشرق الأوسط كاملا إلى هيمنة الغرب كاملة، فاليهود قبل أي اعتبار آخر غربيون ثقافيا وسياسيا. هم جزء لا ينفصل عن حضارة أوروبا وطرف في منظومة القيم والأخلاق والمصالح الغربية. استيقظ قادة الغرب يوم السابع من أكتوبر واستيقظت شعوب الشرق الأوسط والعالم الإسلامي والأقليات في العالم الغربي في اليوم التالي، أي في الثامن من أكتوبر، على أسئلة بدت في لحظتها صعبة ومعقدة وكان الظن أن إجاباتها ستكون من النوع العصى على الفهم. من هذه الأسئلة مثلا: أولا: هل عادت نظرية صدام الحضارات تفرض نفسها سبيلا ضروريا نحو فهم أفضل لتطور العلاقات بين الأمم على مر التاريخ ومنهجا ممتازا نحو التنبؤ العلمي بمستقبل هذه العلاقات؟ نعم. عادت تلح، وأحيانا تهيمن، على النقاش الدائر حول الأسباب المباشرة وراء حال القلق ووراء ظواهر مثيرة للاهتمام، من هذه الظواهر على سبيل المثال وليس الحصر (أ) الشارع الغاضب في معظم قارات العالم ضد الرجل الأبيض. رأيناه في إفريقيا متمردا على إصرار المصالح الأمريكية والأوروبية على مواصلة هيمنتها على اقتصاد القارة وحياتها السياسية. (ب) هذا الشارع نفسه ما أن أنشبت إسرائيل أنيابها في قطاع غزة إلا وكان في طليعة الشعوب الملونة التي لم تتردد في إعلان غضبها على الغرب الذي وقف متضامنا مع إسرائيل. (ج) استمر الغضب ليمتد في مواقف رسمية أخذت شكل التصويت ضد أي مشروع قرار في الأمم المتحدة يمنح إسرائيل شرعية سياسات الإبادة والانتقام الجماعي. (د) لأول مرة يخرج العالم الملون في أغلبية ساحقة ليعلن ويمارس باستمتاع غير مألوف فرض العزلة السياسية على الولايات المتحدة باعتبارها الممثل الأكبر لهيمنة الرجل الأبيض وحامل رسالته. ثانيا: إلى أي حد يمارس الغرب الصدق في إيمانه بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتقرير المصير وأولوية الحريات الفردية والعدالة؟ مرة بعد أخرى أثبت الغرب الأبيض بأغلبية ساحقة تمسكه بأساليب استخدام المعايير المزدوجة في التعامل مع مصالح وحقوق الشعوب غير البيضاء. مرة بعد أخرى يؤكد الغرب ولاءه شبه المطلق لهيمنة مبادئ الواقعية السياسية وأولويتها على المبادئ الأخلاقية. مرة بعد أخرى يتأكد أن هنري كيسنجر لم يبتكر جديدا خلال مدة توليه شؤون السياسة الخارجية الأمريكية. لم يكن جديدا ما فعله في كمبوديا على طريق إخراج أمريكا من ورطة فيتنام ولم يكن جديدا دفعه المخابرات الأمريكية لإسقاط حكومة يسارية منتخبة في تشيلي انتخابا حرا واغتيال رئيسها وإقامة حكومة عسكرية مارست الإرهاب وفتحت المعتقلات وخربت الحياة السياسية. ولم يكن جديدا حمايته لإسرائيل وإقامة جسر جوى بشكل عاجل لإنقاذها من تقدم الجيش المصري في حرب تحرير سيناء ولتغيير توازن القوة في الحرب لصالحها. وبالتالي لم يكن مفاجئا لنا أن نسمع عن أوامر من واشنطن تقضي بتحريك حاملتي طائرات وغواصة نووية وآلاف الجنود لحماية عدوان جيش إسرائيل على شعب غزة وحماية إرهاب المستوطنين ضد سكان الضفة الغربية غير عابئة بمبدأ حق الشعوب استخدام العنف لتحرير أراضيها المحتلة. هي هيمنة الرجل الأبيض في أبشع صورها. ثالثا: استمرار تردد السؤال عن انحدار أمريكا. أمريكا تنحدر أم أن الانحدار تلفيق من روسيا والصين لخدمة أهدافهما وبخاصة هدف ضرب الهيمنة الأمريكية؟ المثير في هذا السؤال أن واشنطن نفسها تبنته بعد أن رفضته. ولعل شعار العمل لاستعادة أمريكا عظيمة الذي رفعه الرئيس السابق دونالد ترامب ثم رفعه من بعده بصياغة مختلفة الرئيس الحالي جوزيف بايدن لأبلغ دليل على انحدار أمريكا كقوة أعظم سواء كان الانحدار نسبيا أو مطلقا. وهناك أدلة أكثر وربما أقوى بلاغة. سمعت صديقا أوروبيا نافذا في مجال صنع الرأي العام يلمح إلى أن استمرار الانحدار الأمريكي سبب وراء التهور الملحوظ في السلوك العدواني الإسرائيلي في الفترة الأخيرة. إسرائيل تخشى على مستقبلها في ظل أمريكا دولة عظمى منحدرة. من هذه الأدلة البليغة على انحدار أمريكا حال الانقسام الشديد في داخل أمريكا حول قضايا في السياسة الخارجية، وهي السياسة التي كانت غالبا وبتوحد الرأي حولها دليلا دامغا على قوة الدولة الأعظم. رأينا في الأسابيع الأخيرة مظاهر تمرد بين الشباب الأمريكي على سياسة أمريكا الراهنة تجاه مسألة غزة. الأخطر هو ما نلاحظه من انقسام حول الاستمرار في توفير دعم مادى كافٍ لأوكرانيا وإسرائيل في وقت واحد، أيهما أهم لمصالح أمريكا العليا أوروبا أم إسرائيل؟ من الأدلة أيضا الهزال المتزايد في حجج صناع السياسة الخارجية وتضارب مواقفهم وتقلبها. ومن الأدلة المثيرة للاهتمام الخروج للعلن في الآونة الأخيرة بخلافات على مستوى قادة أمريكا وإسرائيل وتعمد كل طرف أن يثبت أنه المهيمن وليس الطرف الآخر. بمعنى آخر تعرضت الولايات المتحدة في ولاية بايدن لانكشاف حقيقة الصدع المختفي في منظومة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية والدور غير الطبيعي وغير الصحي الذي تلعبه الصهيونية في الحياة السياسية الأمريكية. رابعا: على ضوء استمرار انحدار أمريكا من جانب وانكشاف سلوكيات تمرد وخلافات جديدة بين أعضاء الحلف الأطلسي وفي الوقت نفسه إصرار أمريكا على صنع أو إنعاش تحالفات مصغرة أغلبها في اتجاه آسيا والمحيط الهادي، ومضاعفة جهود إخراج الهند من عالم الجنوب المنتمية له طبقا لمختلف المعايير وضمها إلى تحالفات يقودها الرجل الأبيض اللون والغربي المركز، على ضوء استمرار هذه العناصر مجتمعة يتردد السؤال التالي: هل بدت على سلوك كل من الصين وروسيا بوادر ثقة زائدة في نفسيهما واطمئنان أوفر على مستقبل مكانتيهما؟ نعم ولكن بتحفظ ملموس. فمن ناحية أقبلت دول في عالم الجنوب على إقامة علاقات أقوى ومصالح مشتركة مع الدولتين العظمتين المنافستين لأمريكا، وفي الوقت نفسه المحافظة، كلما أمكن ذلك، على علاقات طيبة بدول الغرب وبأمريكا خاصة. خلصت الظاهرة إلى اقتناع متزايد بين بعض مفكري وعلماء العلاقات الدولية في الغرب بأن دول الجنوب عادت، كما فعلت من قبل في مطلع عهد الحرب الباردة، قوة سياسية تسعى لتثرى السياسة الدولية وتؤثر فيها. صعود في ثقة روسيا والصين بنفسيهما استنادا إلى ازدهار نشاط دول الجنوب ربما أدى إلى دفع أكثر من مفكر ومركز بحث في أمريكا إلى تفنيد صلاحية ومضمون مفهوم «عالم الجنوب». كما حث هؤلاء السياسيون الغربيون على وقف تقدمه وتسربه إلى تصريحاتهم الرسمية وأنشطة البحث العلمي. من ناحية أخرى لم تعد خافية حال العجز بل والشلل التي أصابت عمل مختلف أجهزة ومؤسسات العمل الدولي المشترك كدليل إضافي وملموس في أسوأ الأحوال على تدهور مكانة نظام الهيمنة الأمريكية أو كدليل في الحال الأقل سوءا على تخلف مستوى أداء الدبلوماسية الأمريكية في السنوات الأخيرة وتعدد وتفاقم أسباب الخلافات الداخلية بين أفرع أجهزة صنع القرار الأمريكي. خامسا: إلى أين؟ أقصد السؤال كثير التردد في عديد من وزارات الخارجية والمجتمعات المدنية ومراكز البحوث، إلى أين نحن ذاهبون قسرا أو برضانا في حال استمرت طويلا تهيمن على العالم ظواهر التحول في النظام الدولي وفي مختلف الأنظمة الإقليمية والفرعية ومنها طبعا النظام الإقليمي العربي؟ حرب إسرائيل الوحشية بهدف إبادة الفلسطينيين تطور منفرد أم مؤشر على عودة إلى شريعة الغاب في العلاقات الدولية؟. الإجابات كثرت. هناك من يرى احتمالا قويا في قرب عودة الصين وأمريكا إلى حديث مختلف عن عودة تايوان إلى الوطن، ومن يرى زيادة هائلة في قوافل الهجرة من إفريقيا والشرق الأوسط نحو قوارب في البحر المتوسط، ومن يرى توسعا في النفوذ الروسي في إفريقيا ووسط آسيا وشرق أوروبا وصعود مألوف للحركات اليمينية المتطرفة في معظم هذه الأقاليم. هناك من يتوقع مرحلة من الفوضى في حال العالم، وفي الشرق الأوسط بخاصة. هناك إجابات أخرى، أغلبها صعب ومعقد ومع ذلك هي الأكثر شيوعا وبخاصة في دوائر النخب الحاكمة وكتائب التنظير لسياسات الوضع القائم. ضروري جدا لفهم هذه الإجابات الصعبة والمعقدة العودة إلى قراءة خلفيات وتفاصيل الحرب الدائرة حاليا على فلسطين والمواقف الحقيقية لكل أطرافها المتحاربة والمتفاوضة على حد سواء. { كاتب ومحلل سياسي
مشاركة :