ما زال العجز الرسمي الفلسطيني والعربي والدولي لوقف ما يتعرض له المدنيون في قطاع غزة، سيما الأطفال والنساء، من مذابح يومية يطغى على مشهد التعامل مع العدوان الإسرائيلي والذي يصفه جميع المراقبين الموضوعيين بأنه الأبشع في الذاكرة الإنسانية. بالرغم من مقترحات وجهود الوسطاء، والذين ينسقون مواقفهم مع إدارة بايدن، المساند الأكبر للحرب الإسرائيلية على القطاع، إلا أن حكومة الحرب في تل أبيب ما زالت تراوغ، وهي تتراوح بين محاولة التخلص من ضغط المجتمع الإسرائيلي المتنامي إزاء مسألة الأسرى في يد المقاومة، والتي بدأت ترتبط تدريجياً بوقف الحرب، وبين رغبة نتنياهو لإبقاء أبواب استمرار الحرب مفتوحة، وهو يلهث خلف وهم نصر لن يأتي، معرضة مصير المنطقة لأفدح المخاطر، بما في ذلك مكانة ومصالح واشنطن فيها، بل ومستقبل الإدارة ذاتها في عام الانتخابات التي دخلت ساعة الرمل ونفاد الوقت. تعويم أهداف الحرب لإطالة أمدها تعويم الأهداف الإسرائيلية لحربها على قطاع غزة، وما يجري من عدوان وعمليات قتل واعتقالات يومية في مختلف مدن الضفة الغربية، يشير إلى استمرار تخبط القيادة الإسرائيلية التي ما زالت تعيش حالة الصدمة والفشل والارتباك والشعور بنفاد الوقت، ولكنها في نفس الوقت تهدف إلى إطالة أمد هذه الحرب إلى أطول فترة ممكنة علّ نتنياهو يتمكن من الالتفاف على استحقاقات المساءلة على الفشل الذريع السياسي قبل العسكري والأمني الذي يتحمل هو مسؤوليته المباشرة. ليس فقط كونه رئيس الحكومة المسؤولة عما حدث في السابع من أكتوبر، بل لأنه المسؤول عن استراتيجية وهم إغراق حماس في تداعيات حصار غزة، ومحاولته إذلال أهل القطاع بفتات بقائهم الدائم في غرفة الإنعاش، متوهماً بإمكانية عزلهم عن أي قدرة للمشاركة في مواجهة برنامج حكومته العنصرية في الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة ومقدساتها الإسلامية والمسيحية. فعقيدة نتنياهو الأساسية تتركز في مخططات الاستيطان والضم والحسم التي حشد لها كل مكونات رصيده اليميني الاستيطاني العنصري بالتحالف مع الإرهابيين «سموتريتش وبن غفير» الذين صنعهما بنفسه، بل وأدار شخصياً معركة وحدتهما الانتخابية ليحصل على الأغلبية الائتلافية التي تمكّنه من تنفيذ عقيدته العنصرية. وهو ما يزال عالقاً في وحل عنصريته وتحالفه الإرهابي هذا . تحولات جذرية في الرأي العام الدولي محاولات نتنياهو إطالة أمد الحرب لا تخلو من أجندته الشخصية التي باتت مكشوفة للمجتمع والجمهور الإسرائيلي، وهي من وجهة نظر المراقبين الإسرائيليين تنتقص من مكانة الجيش الذي كان بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي «الأيقونة ودرع الحماية»، بينما استمرار الحرب «يلطخ سمعة هذا الجيش» بوحل غزة. وقد بات واضحاً، بعد مرور ثلاث شهور عليها، أنه غير قادر على تحقيق أي «إنجاز» غير المجازر وحمامات الدم والتدمير الشامل لكل مظاهر الحياة في القطاع، والتي باتت تكبل مكانة إسرائيل الدولية بأطواق التحولات غير المسبوقة في الرأي العام الدولي، التي تجاوزت تأييد عدالة الحقوق الوطنية الفلسطينية إلى مربعات اعتبار إسرائيل خطراً على الاستقرار والسلم الدوليين، بعد أن كانت تتباهى بكذبة واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. الأولوية للوحدة ورفض إدارة منفصلة لغزة ومع ذلك كله، فإن نهاية هذه الحرب ودون تحقيق أي من أهدافها بات وشيكاً، وربما أن ما اعتبره نتنياهو منع حكم حماس من العودة مجدداً للقطاع، يمكن تحويله لإنجاز وطني فلسطيني، ليس بإبعاد حماس عن الحكم، بل بانهيار استراتيجية نتنياهو في فصل غزة. وفي هذا السياق، تتصدر أولوية إعادة بناء وتوحيد مكونات النظام السياسي الفلسطيني على صعيد المنظمة والسلطة على أنقاض الانقسام وخطر الانفصال الذي كاد يبدو داهماً ومرئياً، الرد الأهم على العدوان وأهداف حرب الإبادة ضد شعبنا في قطاع غزة وسائر أرجاء الضفة الغربية. هنا لا بد من الإشارة بالإشادة لموقف حركة حماس المعلن على لسان قادتها بالرفض المطلق لأي إدارة منفصلة لشؤون القطاع، ودعمهم الواضح لتشكيل حكومة وفاق وطني، مبديةً استعدادها لعدم المشاركة المباشرة فيها، شريطة التوافق على مكوناتها وأولوياتها وصلاحياتها وفق القانون كحكومة مدعومة من الكل الوطني، وألا تعود مرجعيتها لسياسة الإقصاء والتفرد، وبما يشير إلى تأسيس مرجعية وطنية جامعة، وليس من خيار انتقالي لذلك غير أن تعود المنظمة وهيئاتها التنفيذية والتشريعية لدورها كجبهة وطنية عريضة وائتلاف وطني بقيادة جماعية موحدة، وتفوض مثل هذه الحكومة بالصلاحيات الكاملة التي ينص عليها القانون الفلسطيني، بما في ذلك التحضير لانتخابات عامة شاملة للرئاسة والمجلسين الوطني والتشريعي «البرلمان». للأسف، فإن القيادة المتنفذة لمنظمة التحرير والسلطة، والتي تعاني من الضعف والشيخوخة، اتسمت مواقفها بالغموض والصمت، وكأن الحرب ليست ضد شعب تدعي شرعية تمثيله، وما تزال محجمة عن المبادرة بخطوات جدية إزاء متطلبات ليس فقط استعادة الوحدة، ومدى الحاجة لمؤسسات قادرة وفاعلة لمواجهة محاولات التصفية، بل وما تمليه الكارثة الإنسانية في قطاع غزة من ضرورة قصوى لاستنهاض فوري لمجمل طاقات الشعب الفلسطيني في كل مكان من أجل إعادة إعمار قطاع غزة، والتي لا تشمل البنى التحتية فقط، بل والتعامل مع تداعيات جرائم الإبادة النفسية منها والإنسانية، وتعزيز الشعور لديهم بأن تضحياتهم الغالية والمؤلمة لن تذهب هدراً. بل إن وحدتنا وصمودنا سيفتح الباب على إمكانية كنس الاحتلال ومحاسبته على جرائمه. هنا لا بد من الإشارة أن مثل هذه المبادرة وبالقدر الذي تشكل فيه حاجة وطنية للصمود ومواجهة تداعيات حرب الإبادة في غزة وخطط الضم في الضفة، فهي تقطع الطريق على مخططات إسرائيل وحلفائها بفصل أو تفصيل هيئات لإدارة قطاع غزة بمعزل عن مؤسسات الوطنية الجامعة، واستماتتها لإعاقة القدرة على إعادة الإعمار كهدف إسرائيلي لتمرير مخططاتها المعلنة بالتهجير بعد أن تضع الحرب أوزارها. وحتى لا يظل أهل غزة مجرد أرواح معلقة بقدر ما كانوا وما يزالوا يستحقون دورهم التاريخي كرافعة للوطنية الفلسطينية الجامعة، فإن مداواة جروح غزة وأهلها لا يحتمل أقل من الوفاء لهذه القيمة الوطنية التي طالما حملتها غزة على أكتافها.
مشاركة :