الروائي والقاص المصري يسرى عبد السلام صبري قدم سلسلة ملاحظات، جمعها في منشور واحد، حول “ألف ليلة وليلة”، وقد اختار فيها تقديم قراءة معاصرة لعدد من لياليها تروي “حكاية الوزيرين التي فيها ذكر أنيس الجليس” نموذجا المقدمة – الإطار لم تقرأ الأجيال السابقة حكايات “ألف ليلة وليلة” كاملة، بأجزائها الأربعة، أستثني من ذلك قلة قليلة جدا لا تمثل رقما يذكر بالنسبة للمجموع، وأغلبهم – إن لم يكن كلهم – ممن يمارسون بالكتابة. والعزوف عن قراءة الليالي ليس بسبب (قلة الفضا)، أو بسبب وازع ديني؛ فكتب الأحاديث النبوية لم تقرأ كاملة أيضا، أما أجيال التيكتوك والبلايستيشن وألعاب الأندرويد اليالي فلا أثق في قراءتها لليالي إطلاقا، رغم اهتمام الجميع الواضح بحكاياتها السماعية. والمشكلة في رأيي تكمن في فعل القراءة بجد ذاته. ولا أخفيكم سرا أنني ألجأ في كثير من الأحيان إلى عقد مقارنة بين محبتي للقراءة، وبين متابعة الآخرين لماتشات كرة القدم وشغفهم بالسجائر، أفعل ذلك عندما يسألني أحده بجدية: بتستفيد إيه من القراية؟ وأظنني أقوم بذلك لتوجيه رسالة ضمنية لسائلي، مفادها أن الوقت والفلوس اللذين أنفقهما في القراءة أنت تنفق مثلهما وأكثر على أشيائك التافهة؛ فدع لي أشيائي التي أراها أنا مهمة. وأصارحكم بأنني أيضا لم أقرأ الليالي كاملة حتى الآن، رغم شرائي للكتاب قبل أعوام من أحد معارض شبين الكوم المتنقلة، ويومها لم أفكر في إزالة الشرنك عن الأجزاء، معتمدا على ثقتي الكبيرة في المنوفية وشعبها الكريم، واكتفيت فقط بالكلمات الثلاث الموضوعة في دائرة على الغلاف: ” الطبعة الأصلية المصورة”. ولم ألحظ أن شهرزاد على الغلاف تحمل في يدها نسخة من نسخ دار النشر التي اشتريته منها، وحتى هذه اللحظة لم أتوصل للكيفية التي أزيلت بها الكلمات عن أوراق الجرائد الصفراء القديمة، أو للكيفية التي أعاد بها الناشر طباعة الكتاب على نفس هذه الأوراق. وأنا (يا ولداه) حملت ساعتها كتابي أسفل إبطي (مش متذكر الصراحة إذا كانوا ادُّوني كيس ولا لأ)، ودفعت (من سكات) المئة والعشرين بلبلا. ولم أكتشف الخديعة إلا في منزلي؛ فاستعوضت الله في أموالي، وبرطمت ببعض الكلمات، ثم أهملت الكتاب تماما. وأقول بأن هذه الخديعة، حتي ولو لم يكن للمنايفة يد فيها، إلا انها قد حدثت على أرضهم، وتحت سمعهم وبصرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وحدث قبل أيام أن قرأت كتابا مجانيا عن “ألف ليلة وليلة”، هاجم فيه مؤلفه دراسة د. سهير القلماوي التي نالت بها الدكتوراة، وتوصل بأدلة ساذجة إلى مؤلف الليالي، وعثرت بالمصادفة بعد أن كتبت منشورا عن هذا الكتاب على دراسة د.سهير (لقيته تاني يوم بالصدفة في سور الأزبكية)، وكنت قد قرأت قبلها كتابا عن الأدب الشعبي لأحمد رشدي صالح، تحدث فيه بإيحاز شديد عن “ألف ليلة وليلة”، وعن دراسة د.سهير القلماوي، هذا بالإضافة إلى بعض المتفرقات الأخرى، وأحسست بعد قراءة الجزء الأول من الدراسة المذكورة بالغيظ والمرارة ، ليس لأنها دراسة قليلة الأهمية، بل لأن المئة والعشرين جنيها أعادت إيلامي ، وطيرت النوم من عيوني؛ فبحثت عن أوراقي الصفراء إياها، وشرعت في قراءة الجزء الأول من الليالي (وصلت الآن إلى منتصف هذا الجزء)، ووجدتني أتوصل إلى بعض الملاحظات حولها، ففكرت في كتابة انطباعاتي الأولية عنها، أولا بأول؛ لعل منوفيا ما، في زمن ما يقرأ ما أكتبه؛ فيقرر إعادة أموالي التي أُخذت مني غدرا. ولأنني كتبت هذه الانطباعات على صفحتي على الفيسبوك سأقسم هذه الدراسة إلى منشورات بدلا من أجزاء، وسأقدمها كما كتبتها. المنشور الأول الأرقام في “ألف ليلة وليلة” مراوغة وخداعة، وأحيانا يكون لها وظيفة ثانوية، أكثر خطرا، وأجل شأنا من وظيفتها الأساسية. والوقت في الليالي متقلب المزاج جدا؛ فتارة نراه خادما للأحداث، ومتفاعلا معها تأثيرا وتأثرا، كما في قصة “مزين بغداد”، وتارة أخرى نراه غير متفاعل بالمرة مع الحدث، أو بليدا (واخد ركن لوحده كده، وقاعد بيشيِّش)، كما في “حكاية الوزيرين التي فيها ذكر أنيس الجليس”؛ ولشرح ذلك سأخلخل مفاصل هذه الحكاية، محاولا الدخول إلى عقل مؤلفها. (هاتقول لي: إزاي؟ هاقول لك: اسمع): تبدأ الحكاية بمهمة خطيرة، يكلف فيها الملك وزيره الطيب بشراء جارية، “لا يكون في زمانها أحسن منها”، (والوزير الشرير اللي في العنوان ده هيتركن على الرف خالص أكتر من سنة)، ويعطي الملك لوزيره مقدما عشرة آلاف دينار ثمنا لها، فيشمر الوزير عن ساعديه، (ويدعبس في سوق الجواري حتة حتة)، مستغرقا “مدة من الزمان” لشرائها، (طبيعي جدا)، وبدلا من أن يذهب بها مباشرة للملك يقرر بقاءها في بيته لمدة ( قال إيه واحد نصحه وقال له: البِنَيَّة تعبانة من السفر، خليها عندك يومين تلاتة كده ترتاح، قول عشرة)، ويخبرنا الراوي أن لهذا الوزير ولد اسمه علي نور الدين، يقول عنه الراوي: “كأنه البدر إذا أشرق بوجه أقمر وخد أحمر وعليه خال كنقطة عنبر وفيه عذار أخضر”، ويقول عنه أبوه: “إن لي ولدا ما خلا بصبية في الحارة إلا فعل”. ولن تمر الأيام العشرة طبعا قبل أن يفض الملعون بكارة الجارية (أومااال!)، ثم يستشعر الابن فداحة (عملته المهببة)؛ فيختفي عن أنظار أبيه شهرا كاملا، (والملك اللي دفع مقدما، وحاسب على المشاريب كل الفترة دي في الطراوة خالص). وتتدخل الأم للصلح بين زوجها وابنها، وينتهي الأمر بزواج الابن من الجارية، شريطة ألا يتزوج عليها. ويستمر الزواج سنة كاملة، (بتقولوا كام يا ولاد!) يتنبه بعدها الراوي أن هناك وزيرا شريرا في الحكاية، (شرير بحق وحقيقي مش كده وكده)، وأن هذا الشرير يبحث عن فرصة لهز صورة نظيره الطيب، لكنه سيسكت لعظم شأن نظيره عند الملك. ولا يخبرنا الراوي عن سبب امتناع الوزير عن شراء جارية أخرى بديلة طوال هذه المدة، أو عن تكليفه لشخص آخر بتنفيذ هذه المهمة (هو كده! والملك نسي الموضوع وخلاص). وقبل أن يظفر الشرير بفرصته يموت الطيب، أو بتعبير الراوي: “نطق الشهادتين وشهق فكتب من أهل السعادة” (طب والعشر تلاف اللي لهفهم من الملك يا ريس، أخبارهم إيه؟)؛ فيحزن الابن لوفاة أبيه، ويظل قي حالة حزن “مدة مديدة” (تطلع قد إيه بأى المدة دي ما حدش عارف). كل هذا والوزير الشرير (مأنتخ، ونايم في العسل)، ولو لم يخبرنا الراوي بصفة كل وزير، أو اكتفى دون تحديد للصفتين بذكرهما فقط، لاختلط علينا الأمر، وربما يتوهم البعض غير ما أخبرنا به (وزير شرير لهف فلوس من الملك علشان يشتري له جارية مزة، فطمع فيها بعد ما اشتراها، قام ابنه اللي ماعرفش يربيه عينه زاغت عليها، وبناء عليه عاقبه بالزواج منها، بدل ما يجوزه ست ستها، وضرب على فلوس الملك، وكانت نهايته إنه غار في داهية، والوزير التاني سكت عشان طيب، وحضر جنازة زميله الشرير علشان بيفهم في الأصول. كده الحكاية تبأى مبلوعة)، ثم بعد ذلك سيضيَّع علي نور الدين كل ميراثه على أصدقائه. وكيله سيحذره قبل ضياعها، لكنه سيتجاهل تحذيره، حتى يأتيه مرة ليخبره بأن أمواله كلها قد ضاعت. والراوي الخبيث هنا لن يوصِّل أصدقائه بخبر الإفلاس شفاهة، بل سيجعل واحدا منهم يسمع الخبر الصادم بنفسه من الوكيل، دون أن يعلم علي أو وكيله بوجود ثالث معهما، ومن هذا الصديق سينتقل الخير إلى بقية (الشلة)؛ فينفضُّون عنه واحدا تلو الآخر، (هيبيع قصره بأى، أو عفش بيته، ويبدأ من جديد؟ أبدا)، ستقول له أنيس الجليس: . “الأوفق أن تأخذني إلى السوق وتبيعني”- عشان يفك ضيقته بتمنها وكده)، وكأنه لم يتزوجها قبل سنة، (وداخل عليها وخارج قدام الناس كلها وقدامنا)، (وجملة أنيس اللي قالتها برو عتب دي هيتحط جنبها خبط لزق كده جملة): “فأخذ أنيس الجليس ودموعه تسيل على خديه”، ثم مضي، وسلمها إلى الدلال. والدلال سيتذكرها في الحال. ولا يظنن أحد ان علي نور الدين (من هنا ورايح هاسميه الفلاتي) سيغضب، بل سيقبل الفكرة بعد أن يمهد له الراوي هذا القبول (إزاي بأي هيمهد له الراوي؟). سيذهب إلى أصدقائه واحدا واحدا لطلب المال، وسينكرون وجودهم كلهم (الرواي البايظ هيخليهم كلهم ساكنين في زقاق واحد عشان خايف على رجلين الفلاتي بتاعه من اللف عليهم)، وفي سوق الجواري سيظهر الوزير الشرير، وسيعرض أربعة آلاف دينار ثمنا لأنيس (عداه العيب وقزح، وطبيعي جدا إن المستعمل ما يبقاش بتمن الجديد)، لكن الدلال سيدَّعي على الرجل الكبارة أنه (مش هيدفع كاش، وهايكتب لك حوالة مش هتطول منها ولا مليم)، وللخروج من هذا المازق (هانقول إنك نزلتها السوق عشان كنت حالف، والبيع مش في نيتك)، ولكي تنطلي الحيلة على الوزير أشار عليه بأن ” تأخذ الجارية من يدي وتلكمها”. (ويلكمها ليه يا منيل؟). وهذا المأزق هو نقطة صعف كبيرة في الحكاية. (عشان البيع مش إجباري، والسعر المعروض مش إجباري، وقبول ورقة الحوالة مش إجباري). وسيخبرنا الراوي بعد تنفيذ هذا الاستعراض إن المعين بن ساوي (اللي هو الوزير الشرير) أراد أن يبطش به (خلوا بالكوا من أراد دي)، “فعند ذلك نظر التجار إلى (الفلاتي)، وكانوا كلهم بحبونه فقال لهم ها أنا بين أيديكم وقد عرفتم ظلمه (ظلمه اللي هو إيه بأي؟ الراجل عارض ٤٠٠٠ دينار و٥٠٠ للدلال، يعني بالمصري كده يطلعولهم مبلغ وقدره)، “فقال الوزير والله لولا أنتم لقتلته”، (الراجل حلف لهم إنه عامل لهم خاطر، وبيهدد كده وكده. ما فيهاش حاجة)، “فرمزوا كلهم لبعضهم بعين الإشارة”، ويحدث أن يجذب الفلاتي الوزير من فوق سرجه، (ويمرمط بكرامته الأرض)، (فيروح للسلطان ومناخيره بتسح من العياط ويقول له: في عرضك: يا ملك الزمان)، ثم يخبره بما حدث (من أول العشر تلاف لغاية معجنة الطين اللي الراوى اللئيم حطها تحته علشان لما الفلاتي يشده يوقعه فيها، بس للأمانة هيزود كام حاجة كده، أنا مصدقه فيهم كلهم الصراحة): الأولى أن الغرض الأساسي من ذهابه للسوق كان لشراء طباخة (حد كان دخل في نيته!)، والثانية أن نيته تغيرت (وقال في نفسه: السلطان أولى بالحتة الجامدة دي. دي أصلا شاريينها بفلوسه)؛ فيغضب السلطان، ويأمر أربعين رجلا من ضاربي السيف: -(هاتولي الفلاتي ابن واكل ناسه هو والكلبة اللي معاه)، “واسحبوهما على وجوههما”. فيسارع حاجب يقال له علم الدين سنجر لتحذير الفلاتي (وطبعا هيوصل له قبل الأربعين وحش)، وسيعطيه لمعاونته على الهروب أربعين دينارا، هم كل ما معه؛ (فياخد الفلاتي ديله في سنانه، ويرمي نفسه هو وأنيس الجليس في أول مركب)، وما سيحدث بعد ذلك سيؤكد لنا أن الجزء الأول من القصة انتهى لحظة ركوبهما في المركب. وسنكتشف مع تطور الأحداث ما يلي: أن السلطان ماهو إلا رئيس مدينة البصرة، وأن الوزيرين وزيران ( كده وكده)؛ لأن هارون الرشيد ووزيره جعفر سيظهران في بغداد، وساعتها يحق لنا أن نتذكر نداء الدلال في السوق على سلعته أنيس الجليس: “ما كل مدور جوزة، ولا كل مستطيلة موزة (فرويد لو كان موجود ساعتها وسمعك كان شلفطك يا راوي الغبرة) ولا كل حمراء لحمة ولا كل صهباء خمرة ولا كل سمراء تمرة”. ويحق لنا هنا أن نستنتج أن مؤلف الجزء الثاني من الحكاية ليس هو مؤلف الجزء الأول، وإنما استكمل الأخير ما بدأه الأول. وما ذلك بأعجب مما جرى للفلاتي الصايع هو وجاريته في بغداد. المنشور الثاني يرق قلب خولي البستان (عقبال اللي في بالي) – وهو الشيخ الوقور – أمام جمال النائمين؛ فيقرر إيقاظهما بألطف طريقة ممكنة. يحدث ذلك بعد كشفه للإزار عن وجهيهما. وأخمن أن الوصف المذكور لعلي في بداية الحكاية كان موضعه الأصلي هاهنا، ثم نقله أحدهم في زمن ما، أو أمام جمهور ما لحاجة في نفسه. ولم يكتف الراوي المتمكن بالجمال وحده للإيقاع بالشيخ، بل وضع الأخير وجها لوجه أمام حقيقة كون الجميل غريبا، وأمام دموعه، محركا بذلك وازعه الديني لإكرام الغرباء، ووازعه الأخلاقي للرأفة بدموعهم، ووازعه (اللي مش عارف اسمه إيه) للتأثر بالجمال. وهنا يعرض الشيخ على ضيفيه دخول البستان، ويدعي كذبا لطمأنتهما (دا كلام الراوي مش كلامي) أنه ورثه عن أبيه، ويطعمهما، ويكرمهما؛ فيساله الضيف عن الشراب، ويتضح بعد الاستفسار أن الخمر هو مقصوده. وهنا يظهر الوازع الديني مرة ثانية، فيتعوذ الشيخ، ويخبره: “أن لي ثلاثة عشر عاما ما فعلت ذلك لأن النبي (ص) لعن شاربه وعاصره وحامله”. ألهذا الرقم <13> دلالة ما؟ الإجابة: نعم، بالتأكيد له دلالة. (بس أنا مش حاوي عشان اعرفها). وهنا ستظهر بوضوح صفة الاحتيال (ظهرت قبل كده مع كدب الشيخ، وهيلجأ لها علي مرة تانية غير دي، وهارون الرشيد هيلجأ هو كمان للحيلة)، مما يدعم فكرة الاختلاف بين الرواة، وبما يدل على أن راوي هذا الجزء أكثر نضجا من راوي الجزء الأول، وأقل نضجا بالتأكيد من راوي قصة “مزين بغداد”. (هيعمل إيه بأى علي عليوة؟). سيخبر الشيخ أن اللعن لو كان متعلقا بالشرب والعصر والحمل فيمكنه تكليف شخص غيره للقيام بهذه الأدوار مقابل المال، وحينها سيضحك الشيخ قائلا: والله ما رأيت أظرف منك ولا أحلى من كلامك. (السطر اللي فات ده ملوش أي لازمة، بس كتبته عشان أظرف وأحلى. يا ريت حد يحطهم جنب أخواتهم في المنشور اللي قبل ده عشان مكسل. ولا يطول رفض الشيخ، بل يقول: هذا كراري قدامك وهو الحاصل المعد لأمير المؤمنين. (مش كان ورث من شوية)، ولا يفوت راوي هذا الجزء – الوصاف بطبعه – فرصة وصف هذا الكرار، ويتطور الحدث؛ فيعرض علي نور الدين قدحا من الخمر على الشيخ، ويستحلفه بحياته، إلا أن الشيخ يكرر رفضه، ولحظتئذ يرتمي النصاب على الأرض مدعيا سكره، مفسحا الطريق في الوقت نفسه أمام أنيس الجليس لإعادة الطلب. وهنا يضعف الشيخ، ولا يهم نور الدين بالقعود إلا مع إمساك الشيخ للقدح الثالث، ثم يقعدون للمنادمة. والسؤال الآن: لماذا أسكر الراوي هذا الشيخ؟ أسكره لتنمو الأحداث نموا طبيعيا. تطلب أنيس إيقاد شمعة واحدة؛ فيأذن لها الشيخ في ذلك، إلا أنها توقد ثمانين شمعة. وتحصل على الموافقة بإيقاد قنديل واحد، ورغم ذلك تشعل ثمانين واحدا، ويسكر الشيخ؛ فيفتح الشبابيك جميعها. كل هذا ليصادف ذلك وجود هارون الرشيد في قصره الموجود في الضفة المقابلة للنهر، ويرى الضوء؛ فيستدعي وزيره جعفرا مستفسرا (هيقول له يا كلب الوزراء)، ولو كانت الحكاية أُلٌفت في زمن جعفر لنفخ راويها بكل تأكيد، ليس لأنه أورد سب هارون له، وإنما لما فعله هذا الراوي مع هارون نفسه. ويضطر جعفر إلى اختلاق قصة لتبرير تلك الإضاءة: (الخولي استأذن عشان يطاهر ولاده في القصر)؛ فيقرر أمير المؤمنين الذهاب إلى هناك حالا. المنشور الثالث والأخير لا يشعر السكران بمرور الوقت، ولا يعبأ بمكامن الخطر، ويبوح بسهولة بما لا يمكنه البوح به عادة؛ هذا بالضبط ما أراده الراوي من سُكٰر الشيخ؛ لذا لن يدهشنا قول جعفر لإثناء هارون عن عزمه: “إن معظم الليل قد مضى”. ولن يدهشنا قول الشيخ لأنيس الجليس: “يا سيدة الملاح الشرب بلا طرب غير فلاح”، ولكن ما سيدهشنا حقا هو صعود هارون لشجرة جوز عالية، عندما لا يسمع صوتا لحفل الطهور في قصره الذي ذهب إليه. وسيرى قدح الخمر بعينيه في يد الشيخ، ورغم ذلك سيأمر جعفر بالصعود هو أيضا. (الراوي ده شكله كان محترف طلوع شجر، أو حرامي شقق). ورغم إعلامنا بأن عرق الغضب قام بين عيني الخليفة، وبدلا من معالجة الموقف بإصدار قرارات عاجلة ورادعة، سيلتزم الخليفة بقانون الليالي الأهم، أعني قانون أفعل التفضيل، أو بمعنى أدق (الخليفة هنا نسخة رديئة محلية الصنع، ملوش دعوة بالبراند خالص). والوصف الكثير ما هو إلا محاولة جيدة للتأكيد على المصداقية الزائفة. – طب إيه اللي هيحصل بعد كده؟ – هيظهر منوفيٌّ ما، في زمن ما لتعويضي عن نسخة الليالي اللي اتنصب عليّ فيها في شبين الكوم. – يا عم مش ده اللي أقصده! -آه. سيوقن جعفر بهلاكه، وسيقول الخليفة: “الحمد لله الذي جعلنا متبعين لظاهر الشريعة المطهرة وكفانا شر تلبيات الطريقة المزورة” (طب والخمرة اللي جاية من كرارك يا مولانا! فوتوشوب ولا إيه نظامها؟) وأما الطريقة المزورة فقد ورد ذكرها لظن الخليفة أن حفل الطهور سيحضره المشايخ والصالحين. ويبدو أن سامعي الراوي قد استحسنوا صعود الخليفة ووزيره للشجرة، لذا كرر صعودهما معا ليحظى بالمزيد من إعجابهم، ويروا معا قيام الشيخ لإحضار عود إسحق النديم، فيقرر الخليفة: “أن لم تحسن الغناء صلبتكم كلكم، وإن أحسنته صلبت وحدك (يا هباب البرك). ( هباب البرك دي من عندي أنا مش من عند الراوي). ويعجب الخليفة بغناء الجارية، ويقول لوزيره: “لابد أن تعرفني حيلة احتال بها على معرفة حقيقة الأمر”. وهنا يتدخل الراوي: (خليك إنت يا جعفر بيه فوق شجرتك، وخلي الطلعة دي عليَّ أنا)، وهكذا يحضر الراوي صيادا – بالأمر المباشر- في هذا الوقت المتأخر للصيد تحت شبابيك القصر، ثم يستخدم تقنية الفلاش باك مرة تانية، عائدا بالزمن إلى لحظة منع الخليفة للصيد أسفل شبابيك قصره، كل هذا ليمسك الخليفة الصياد متلبسا بمخالفته لمرسومه، وكما هي عادة الليالي سيطبق الخليفة على هذا المجرم قاعدة أفعل التفضيل قائلا: اصطاد على بختي. ولأنه الخليفة (وله برضو وضعه وبريستيجه هيطلع في الشبكة “من أنواع السمك مالا يحصى”)، (وهيعمل معاه زي ما عمل الهرم في فيلم الكيت كات مع الراجل في الحجز عشان يبوظ القضية)، نعم، سيتبادلان الملابس، وسيذهب الخليفة المتخفي بمقطف السمك الحي إلى الثلاثي المرح؛ فيطلبون قليه؛ فيقليه، “وما كان مراد الخليفة بذلك إلا السماع من الجارية”. (وسعت منك شوية يا عمنا الراوي)، ويظهر الخليفة المتنكر في زي صياد إعجابه بصوت الجارية؛ فيهبها علي نور الدين له. (تحس هنا بأى إن الراوي عاوز يخلص عشان يلم القرشينات). وبعد أن يعرف بحكاية علي نور الدين سيعطيه ورقة لسلطان البصرة، (هما فاقوا ازاي من سكرهم بالسرعة دي)، لا يهم. ما يهمنا هنا هو رد الخليفة على تعجب علي من مخاطبة الصيادين للملوك: “اعلم اني قرأت أنا وإياه في مكتب واحد عند فقيه وكنت أنا عريفه”، (عشان كده مش هيضرك)، ويخبرنا الراوي بما خطه الخليفة في كتابه “من هارون الرشيد بن المهدي إلى حضرة محمد بن سليمان الزيني المشمول بنعمتي الذي جعلته نائبا عني في بعض مملكتي”. ( هذه اللغة ربما تدل على عصر تأليف هذه الحكاية)، وفي هذا الكتاب يأمر الخليفة بتوليه علي نور الدين نائبا له علي البصرة، بدلا من حضرة (سلطانها)، وينصاع حاكم المدينة للأمر، محضرا القضاة الأربعة والأمراء، إلا أن الوزير الشرير يشكك في أمر كتاب الخليفة، وينجح في سعيه لحبس غريمه (الراوي هنا كان أكثر توفيقا في إظهار شر هذا الوزير)، وينجح في تعريضه لعقوبة الإعدام، إلا أن الخليفة ينقذه، وينقذ المئة والعشرين جنيها (اللي اتنصب عليَّ فيهم) في الوقت المناسب.
مشاركة :