سألني أحد أبنائنا في المسجد الكبير في لندن عن دعاء كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو “اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لا ينفعُ، ومِن قلبٍ لا يخشعُ، ومِن نَفسٍ لا تشبَعُ، ومِن دعاءٍ لا يُسمَع”. صحيح النسائي: 5551. وسؤاله كان هل المقصود بهذا العلم، العلوم الدنيوية؟ وأجبته! يا بُني! أولًا المسلمون لا يُفرقون بين العلوم الدنيوية والعلوم الأخروية؛ لأنهم يفهمون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ”. الطبراني: 6026 فكل علم ينفع الناس في دينهم ودنياهم يُثابون عليه وهو علم جليل. فبعض العلوم قد يكون تعلمها فرض كفاية كالطبيب الذي يُعالج الناس لحاجة الناس عليها. وكانت رفيدة الأسلمية -رضي الله عنها- تداوي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إشارة مهمة إلى أنه المسلم لا يفصل؛ فيقول هذه العلوم دنيوية وآخرى دنيوية، وقدّم المسلمون نماذج عظيمة من العلماء كابن النفيس اشتهر بالطب، وكان فقيهًا وأصوليًا، والبيروني كان فلكيًا وأديبًا وشاعرًا وتقيًا ورعًا، وابن الياسمين الفاسي كان عالم رياضيات وفقيهًا في نفس الوقت، وأبو العباس بن البناء المراكشي، كان عالمًا في الجبر والهندسة، وله كتاب مطبوع في الرسم العثماني للقرآن الكريم. هؤلاء العلماء قدموا هذه العلوم لفهمهم الصحيح أن من غايات وجودنا على هذه الأرض إعمارها قال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود: 61) ولفهمهم الصحيح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما مِن مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إلَّا كانَ ما أُكِلَ منه له صَدَقَةً، وما سُرِقَ منه له صَدَقَةٌ، وما أكَلَ السَّبُعُ منه فَهو له صَدَقَةٌ، وما أكَلَتِ الطَّيْرُ فَهو له صَدَقَةٌ، ولا يَرْزَؤُهُ أحَدٌ إلَّا كانَ له صَدَقَةٌ. صحيح مسلم: 1552 ولكن الدعاء يقصد به العلم الذي لا ينتفع به صاحبه. فالغاية والمقصد من العلم هو إصلاح الإنسان نفسه، ورحمات الله المتجددة على الإمام أبي حنيفة النعمان كان يقول: العلم ما يُقربك إلى الله. والإمام مالك -رحمه الله- كان يقول: إنما طلبت العلم لنفسي، أي لإصلاحها واستقامتها. فالعالمُ الذي لا يعمل بعلمه إنما أكثر حجج الله عليه. ويروي أن عروة بن الزبير -رضي الله عنه- جاء إلى عائشة -رضي الله عنها- يستزيدها علمًا، فسألته: هل عملت بما علمتك؟ قال: لا. قالت: لم تكثر حجج الله عليك. وقد جاء في الصحيح أن أول من تسعر به النار العالم. وأكثر بلايا الأمة تكون من العلماء الذين لا يعملون، وقد أنكر المولى جل في علاه في القرآن هذا الأمر: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (البقرة: 32). أو من الذين يسخرون علمهم لمصالحهم الشخصية ويبيعون آخرتهم بعرض من الدنيا قليلًا (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة: 79). ورحم الله البصيري إذا يقول متحدثًا عن من يدعو الناس إلى ما لا يفعل: امَرتكَ الْخيْر لَكِنْ مَا ائْتمَرت بهِ.:. وَمَا اسْتقَمْت فَمَا قَوْلِيْ لَكَ اسْتقِمِ وَلا تزوَّدت قَبلَ الْمَوْت نَافِلَةً وَلَمْ اصَلِّ سِوَى فَرضٍ وَلَمْ اصُمِ نسأل الله تعالى أن يُعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا ويزدنا علمًا، ويجعلنا هداةً مستدين.
مشاركة :