موروث عمره قرون يحاكي تراث وهوية مجتمع لا ينفك أسلافه عن توريثه إلى أخلافه.. ليتمرحل عبر السنوات وازدياد التجارب واغتذاء الفكر.. حتى وصل إلينا بهذا الشكل النابض بالحياة؛ إنها «العرضة الجنوبية» المزدانة بجمال الأداء وسحر البيان، التي تختزل التقاليد، وتصور بلاغة نظم الشعراء. في بدايتها كانت العرضة استعراضاً حربياً عسكرياً مهاباً، يزلزل قلوب الأعداء وقت ما يؤديها أهالي القرية تأهباً للقتال، ولهذه الغاية تطبّعت قصائدها بالفخر والمديح، واستعمل مؤدُّوها السيوف والجنابي، بجانب استخدام طبلين هما الزير والزلف.. وأيضاً كانت تُمارَس لحظة مغادرة أبناء القرية، وإذا أقبل ضيوف على القرية أو آب إليها أبناؤها. فيما يرجع أقدم نص شعري لها إلى الشيخ والشاعر سعيد بن رقوش، ويتضح من أبياته بأنها تخلو من فن «الشقر»، كما أُرِّخت عام 1080هـ بحسب ما أورده الباحث قينان الزهراني -رحمه الله-، وهي: حكم لراعي القرن سيدي حيدره ولا درى أن الحكم عندي في البلد حطيت في عطف المسكية مجزرة مجزرة يعلم بها الجد الولد أما الرد فكان: يا عم سعيد يا كلامك ما أكبره لا تأمن على الدنيا ترى الدنيا بعد أما تعديت الردم فأنا مره وأسقيك من حثو كما حثو البرد وإبّان ما عم الأمن والأمان في المنطقة، وخيم الرغد والنعيم على أجوائها، انعكست آفاق ذلك على الناس والفنون والحياة؛ في أعقاب رحلة المؤسس الملك عبدالعزيز -طيّب الله ثراه- لتوحيد المملكة؛ فتنعمت العرضة بالازدهار وعاشت في بحبوحة، حتى صارت قابلة للنمو والنضارة في ظل الأجواء المهيئة، وبات فعلها يشير إلى تراث المنطقة الغني، ويحكي شيئاً عن زمن الأجداد، وكذلك أضحى الشعراء يتناولون مواضيع شتى. وأصبحت «العرضة» في نظر إنسان المنطقة الجنوبية فضاءً يعبّر عن هويته وذاته، إذ أفسح مجالاً لروحه لتقول ما عجزت عنه الألسن، داعياً الشاعر الموهوب في نطق الكلام البهي، حتى يبوح عما يجوب في خاطره. وغدا شعراؤها يتبارون في فن الشقر الذي أُدخل عليها متأخراً، وهو الجناس التام أو الناقص، حيث أن الكلمة في نهاية الأبيات تتّحد باللفظ وتختلف بالمعنى، ويتنافس في الميدان شاعران أو أربعة، يبدع أحدهم وهو من يحدد القافية ويرد الآخر وفقها. وهذا يوحي بتأصّل الشعر في تاريخ المملكة الثقافي، ويثبت سريانه في دماء أفراد المجتمع منذ مئات السنين، زيادة على أنه متنوع المشارب ومتعدد الفنون، ليستحق من وزارة الثقافة إطلاق مبادرة الشعر العربي 2023 في مطلع العام الجاري، كما أعلنت الوزارة عن تنظيم «مهرجان الشعر النبطي» الذي سيقام في منطقة القصيم خلال الفترة من 4 إلى 7 يناير 2024. من جهتهم، زعم الخبراء بأن العرضة من أصعب الفنون، لأنها تُحتّم على شاعرها الاتسام بمعايير ثقافية وبلاغية وفنية عالية، إضافة إلى قوة شروطها وتعجيز بعض أبياتها، بينما تستند على ثراء لغة المشارك وكثافة معاني ورموز القصيدة، علاوة على أن المتلقين يتمتعون بخبرة متينة وذائقة نفيسة تجعلهم مقيِّمين للمادة الشعرية. وبطبيعة الحال؛ زخرت العرضة برموز ونجوم ساقتهم عبقريتهم الأدبية إلى ارتقاء هامته، منهم الشاعر الشهير محمد الغويد الغامدي، من نخبة الشعراء وممن نثر إبداعات فاخرة زهاء خمسين عام، وفي هذه الأبيات يرد على بدع الشاعر سعد بن عزيز: يا شباب اليوم لا احد يقول الشيب لاش لان راعي الشيب سيدي وراعي الشيب لي ولان رشده زايد مايعود في دناوي وانت لاتنسى جوابه ولامن يسمنه ويعتبر أحمد بن زربان المالكي الملقب بـ»حوقان» من كبار الشعراء، وقد امتازت قصائده بالحكمة والجزالة، وفي ذات مرة بدع في حفل أقيم بأحد قرى تهامة، ولم يكن مدعواً بل مر عابراً، ووقف بها وشارك قائلاً: يا سلامي على سوقٍ بني عالوفا والعازمان دونه الله وقوماً مستعدين حيان الرفاقه مثل نوراً على المصياف إلى عد بعد الدمس ماه أهل صغر الميازر والعطف والجنابا المحسنيه وأحد أعلام هذا الفن الرصين؛ الشاعر محمد بن ثايب الشهراني، المشرق بـمسمى «شمس العرضة الجنوبية»، وكشفت أبياته عن صلابة شخصيته وشراسته في المواجهة، وعلى سبيل المثال لا الحصر لأبياته؛ رده على بدع الشاعر هميل بن شرف: مريض وأشفاني الكريم الودود وفضيت لك ذا الحين يابو شرف يا قلب لا تشتال همٍ ورا هم ما كل يومٍ حزب ومنظمه وفي العصر الحاضر للعرضة لا يمكن التغافل عن الدكتور عبدالواحد الزهراني، الذي برهن على جدارته من خلال شاعريته، مُرسِياً قواعد حضوره بمهاراته الحاذقة، وهذه أبياته الحسناء: يوم كل هجع في مهجة النوم رحت أقرى كتاب في سطوره بقية مجد واثار من تاريخ ضايع.
مشاركة :