في ظل تزايد الاستياء داخل كردستان العراق، يعمل السياسيون المعارضون بحماس على إنشاء جبهة قوية لتحدي الحكم المستمر للحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في انتخابات فبراير 2024. وفي حين يقوم هذا المسعى على الرغبة في التغيير، إلا أنه حافل بالتعقيدات والعقبات التي تؤكد التحدي الصعب المتمثل في الإطاحة بالاحتكار الثنائي الراسخ. أربيل - يواجه الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، الحزبان الحاكمان النافذان في حكومة إقليم كردستان منذ أكثر من ثلاثة عقود، مجموعة غير مسبوقة من التحديات السياسية والاقتصادية. فالحكومة الاتحادية في بغداد تسعى بشكل نشط، من خلال المحكمة الاتحادية العليا، إلى تقويض المؤسسات الرئيسية في حكومة إقليم كردستان بشكل قانوني. وفي الوقت عينه، أسفرت القيود المالية التي فرضتها بغداد عن وضع كارثي، إذ لم يتقاضَ الملايين من الموظفين الحكوميين رواتبهم منذ أشهر، ما فاقم الاستياء العام وزاد النقمة على القيادة الكردية. وحتى قبل الأزمتَين الاقتصادية والسياسية الأخيرتَين، كانت شعبية الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني تشهد تراجعا مستمرًا. ففي الانتخابات النيابية العراقية لعام 2021، لم يحصل الحزبان سوى على 22.7 في المئة فقط من إجمالي أصوات الناخبين المؤهلين في إقليم كردستان العراق، وهو أدنى مستوى دعم لهما منذ ثلاثين عاما. وقاطعت نسبة كبيرة بلغت 77.3 في المئة من الناخبين المؤهلين الانتخابات أو أدلت بأصواتها لأحزاب بديلة، ما يشير إلى خيبة أمل واسعة النطاق من الوضع الراهن. ويرى السياسيون المعارضون أن هذا التراجع يمثل فرصة مناسبة لتحدي الهيمنة المزمنة للحزبَين الحاكمَين. ويرى رينوار نجم، صحافي كردي عراقي مقيم في لندن، في تقرير نشره معهد واشنطن أن لدى حكومة إقليم كردستان ثلاث جبهات معارضة متميزة، يملك كل منها مجموعة فريدة من القيود. يبرز “الجيل الجديد”، الذي يترأسه رجل الأعمال الذي دخل معترك السياسة شاسوار عبدالواحد، كحزب المعارضة الأكثر شعبية وتنظيمًا في حكومة إقليم كردستان. وحصل هذا الحزب الناشئ على أربعة مقاعد في الانتخابات النيابية العراقية لعام 2018، وبحلول عام 2021، فاز بتسعة. الحزبان الإسلاميان "الاتحاد الإسلامي الكردستاني" و"جماعة العدل الكردستانية" يشكلان جبهة معارضة أخرى في إقليم كردستان العراق وكان “الجيل الجديد” الحزب الكردي الوحيد الذي شهد زيادة كبيرة في الأصوات خلال تلك الانتخابات، في حين شهد الحزبان الحاكمان المهيمنان تراجعًا كبيرًا في الأصوات. كما خلّف الحزب تأثيرًا ملحوظًا في مشاركته الأولى في الانتخابات النيابية في كردستان عام 2018، بحيث حصد ثمانية مقاعد. ويشكل الحزبان الإسلاميان، “الاتحاد الإسلامي الكردستاني” و”جماعة العدل الكردستانية”، جبهة معارضة أخرى في إقليم كردستان العراق. وفي انتخابات عام 2018، حصل الحزبان معًا على 12 في المئة من الأصوات، فحصلت ” جماعة العدل الكردستانية” على سبعة مقاعد و”الاتحاد الإسلامي الكردستاني” على خمسة. وعلى الرغم من انخراطهما النشط في السياسة على مدى عقود، لم يتمكن الحزبان الإسلاميان قط من تجاوز عتبة 15 في المئة من الأصوات. وقد برزا كقوتَين معارضتَين لـلحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني بعد عام 2009، بالتزامن مع تأسيس “حركة التغيير”، التي أصبحت حزب المعارضة الأبرز في الإقليم. وأما الجبهة الثالثة فهي في طور التشكل وتطمح إلى إنهاء حكم الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني الذي دام ثلاثة عقود. وانخرط قادة “حركة التغيير” السابقون في نقاشات مكثفة على مدى عدة أشهر، سواء على المستوى الداخلي أو مع شخصيات معارضة أخرى، لإنشاء تحالف لا يشكل خلفًا للحزب فحسب، بل يتعلم أيضًا من أخطائه. وشكلت “حركة التغيير”، التي أسسها في عام 2009 نوشيروان مصطفى، وهو سياسي محنك، في البداية تحديًا صعبًا أمام الاحتكار الثنائي للحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. فخلال خوض “حركة التغيير” غمار الانتخابات للمرة الأولى، حققت إنجازًا لافتًا من خلال الفوز بربع المقاعد في برلمان كردستان، ما عزز مكانته كثاني أكبر حزب في الإقليم. لكن خلافات “حركة التغيير” الداخلية ومشاركتها في الحكومة ووفاة مؤسسها والتغييرات في قيادتها، أدت إلى خسارته 95 في المئة من أصواته في الانتخابات العراقية الأخيرة. الخلافات حول القيادة، وانعدام الثقة بين الشخصيات المعارضة، والمخاوف بشأن الخسائر الانتخابية، تعيق تشكيل معارضة متماسكة ويعمل الآن الأفراد الذين تركوا “حركة التغيير” في السنوات الأخيرة بجد من أجل قيادة حزب معارضة شعبي آخر، بحيث يتواصلون مع السياسيين والناشطين المعارضين الآخرين لإنشاء جبهة سياسية متماسكة. وتشمل الشخصيات الجديرة بالذكر التي يُحتمل أن تنضم إلى هذه المبادرة رئيس برلمان كردستان السابق يوسف محمد، وعلي حمه صالح، الذي يعتبر على نطاق واسع أحد أكثر المشرعين شعبية في تاريخ برلمان كردستان، وعبدالله ملا نوري، وهو نائب سابق محترم آخر، والمؤسس المشارك في “حركة التغيير” عثمان حاجي محمود، السياسي الكردي المخضرم ووزير الداخلية السابق في حكومة إقليم كردستان، ومسعود عبدالخالق، الناشط السياسي الكردي والكاتب المقيم في أربيل. وفي البداية، ترشح أعضاء “حركة التغيير” على أساس برنامج يدعو إلى تغيير شامل في النظام السياسي لحكومة إقليم كردستان، حيث عارضت الفساد وحكم العائلة وطرح نفسها كبديل للحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. لكن الحزب حوّل تركيزه ليصب اليوم على إصلاحات محدودة داخل الإدارة الحالية. وفي حين أنه لا يسلط الضوء بشكل بارز على قضايا محددة متعلقة بالسياسات، يشير تطور “حركة التغيير” إلى خروجها عن أجندتها الأولية القائمة على التغيير الجذري لتتبنى نهجًا أكثر واقعية يتمحور حول الإصلاحات الداخلية. وكلفت الإخفاقات في النهج الأولي الحركة غاليًا في الانتخابات الأخيرة. وبرز يوسف محمد، رئيس برلمان كردستان السابق، كشخصية نافذة في جبهة المعارضة الناشئة، مؤكدًا بذلك أن زوال حزبه السابق، “حركة التغيير”، ترك فراغًا كبيرًا يستحق الاهتمام. ومع الاعتراف بأخطاء “حركة التغيير””، يشدد محمد على الالتزام بتعلم دروس حاسمة من مسار الحركة. و أشار محمد إلى أن “حركة التغيير” أعطت الكثير من الأمل للناس، ثم رمت بهم إلى الحضيض”. وأضاف في حديثه عن إخفاقات الحركة “نحن في ‘حركة التغيير’ أعطينا أملًا كاذبًا للشعب بأن الأمور يمكن أن تتغير بالكامل في دورة انتخابات واحدة أو اثنتين. لكن عملية التغيير تتطلب التحلي بالصبر”. القضايا الداخلية غير الظاهرة للعيان بين الشخصيات الرئيسية ضمن جبهة المعارضة المحتملة أعمق مما توحي به المظاهر الأولية ويشدد محمد، الذي يشارك حاليًا في جهود تعاونية مع شخصيات سياسية بارزة في حكومة إقليم كردستان، على العملية المستمرة للبحث عن أرضية مشتركة وإرساء أسس العمل الموحد. وعلى الرغم من هذه النقاشات، لم تتوصل الجماعة بعد إلى أي قرارات ملموسة. ولا يعتقد كثيرون في حكومة إقليم كردستان أن وجود حزب جديد يمكن أن يضع حدًا لهيمنة الحزبين الرئيسيين بشكل ديمقراطي. وينشأ هذا التشكيك من التصور أن هذين الحزبين يتمتعان بنفوذ كبير، تعززه سيطرتهما على المؤسسات الحيوية، بما في ذلك الجيش، والمحاكم، وأجهزة الأمن، وبشكل خاص الاقتصاد. ويدرك محمد التحدي الهائل الذي يواجهه، مشددًا على الحاجة إلى إعادة بناء الثقة في العمليات الانتخابية والديمقراطية في حكومة إقليم كردستان. ويقترح استراتيجيات مثل اللجوء إلى المحكمة الاتحادية لتسليط الضوء على أن الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني لا يحتكران المشهد السياسي. وفي معرض الحديث عن الشكوك المحيطة بالعملية الديمقراطية في الإقليم والإجابة على السؤال الحاسم حول ما إذا كان الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني سيسلمان السلطة طوعًا إذا خسرا الانتخابات، يؤكد محمد أن السياسة الإقليمية الحالية لا تحابي الحزبين الحاكمين. ويشدد على أن قوتهما الفعلية ليست كبيرة كما هو شائع، مشيرًا بتفاؤل إلى أنه “من بين النسبة التي فاقت 60 في المئة ممن قاطعوا الانتخابات، إذا تمكنا من إقناع النصف بالتوجه إلى صناديق الاقتراع والتصويت لنا، فسوف نفوز”. القيود المالية تشكل عقبة كبيرة أمام جبهة المعارضة الجديدة التي تفتقر إلى الخبرة وتواجه رؤية المعارضة لجبهة موحدة تحديات داخلية تعرقل الطريق إلى الأمام. فالخلافات حول القيادة، وانعدام الثقة بين الشخصيات المعارضة، والمخاوف بشأن الخسائر الانتخابية المحتملة، تعيق تشكيل معارضة متماسكة. وتشكل القيود المالية أيضًا عقبة كبيرة أمام جبهة المعارضة الجديدة هذه التي تفتقر إلى الخبرة. ويؤكد محمد قرارهم بعدم طلب الدعم من القوى الإقليمية، كما تفعل الأحزاب الكردية التقليدية في الكثير من الأحيان، بل التواصل مع رجال الأعمال الأكراد للحصول على الدعم في إنشاء وسيلة إعلامية قوية لإيصال صوتهم بشكل أفضل وحشد دعم واسع النطاق. لكن القضايا الداخلية غير الظاهرة للعيان بين الشخصيات الرئيسية ضمن جبهة المعارضة المحتملة أعمق مما توحي به المظاهر الأولية. وعلى الرغم من الاجتماعات المتعددة، لا يزال إيجاد إطار متماسك للتعاون بعيد المنال. وتلعب مسألة القيادة دورًا أساسيًا في التحديات، إذ تشكل اعتبارًا بالغ الأهمية لم تتم معالجته بعد بالإجماع. ففي حين أن إنشاء مجلس قيادة بدلًا من وجود قائد واحد هو خيار مطروح، إلا أنه لا يحظى بتأييد جميع الأعضاء. وأكد علي حمه صالح أن المباحثات الرامية إلى تشكيل جبهة معارضة ما زالت جارية، لكنها لم تسفر عن أي نتائج حاسمة، رافضًا تقديم المزيد من التفاصيل أو التوضيحات. ويعقّد انعدام الثقة الديناميكيات بين الشخصيات المعارضة، بحيث يفكر صالح في ما إذا كان عليه شق طريقه السياسي الخاص أو الاصطفاف مع الجبهة ككل. وبالإضافة إلى ذلك، يسود خوف واضح في صفوف المعارضة من أن تؤدي المشاركة النشطة في الانتخابات المقبلة إلى هزيمة كبيرة، ما قد يُنهي المسيرة المهنية لبعض السياسيين المخضرمين. وتؤكد هذه الشبكة المعقدة من التحديات الداخلية مدى تعقيد تشكيل جبهة موحدة قادرة على تحدي الأحزاب الحاكمة الراسخة بشكل فعال. ومع اقتراب موعد الانتخابات المقررة في فبراير 2024، يواجه السعي إلى إرساء حقبة سياسية جديدة في كردستان العراق تحديات هائلة. فالساسة المعارضون الذين تحركهم رغبة شديدة في التغيير، متسلحين بدروس الماضي، يسعون إلى التغلب على الانقسامات الداخلية وبناء جبهة موحدة ضد الاحتكار الثنائي القائم. وتظل النتيجة غير مؤكدة، إلا أن تصميم المعارضة الذي لا يتزعزع يعكس تحولًا أوسع في الديناميكيات السياسية لحكومة إقليم كردستان.
مشاركة :