«الحب أوله هزل وآخره جدّ، دقّت معانيها لجلالتها عن أن توصف، فلاتُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عزو وجل.»-ابن حزم الأندلسي، طوق الحمامة-. كان وسيظل لغزاً إنسانياً، فرغم تطور العلوم و المعارف ظلت منطقته مختبئة في ظلمة المجهول، وكأن كُتب عليه أن يكون ظلاً للاوعي واللاعقل، وأن يظل أعمى رغم قوة نظر أتباعه، ومجنونًا رغم قوة إدراكهم، ومهبط توهان رغم وضوح خارطة الطريق أمامهم. إنه الحب؛ الخطيئة الأولى في التاريخ الإنساني الذي أورث الإثم و الشرك كما أورث العذاب والمعاناة، وكان وسيظل سلاحاً للصراع والألم، وحيناً هو قبر موت مفتوح تحميه غربان الحزن. يمتلئ التاريخ بحكايات الحب والمحبين، حكايات ضلت طريقها إلى السعادة، لتصبح قرابين؛ ضُحي بها على مذبح الحب، ليشرب من آلامها، فالحب يُخلد بألم الآخرين، أو هذا ما أثبته لنا التاريخ. *الحب من أول نظرة. يؤمن الكثير بالحب من أول نظرة، ويعتبرونه القدر المحتوم، وفي الدين هي «الأرواح جنود مجنّدة ما تعارف منها ائتلف» وفي علم الطاقة قانون الجذب، ورغم سعي قانون الجذب في الحب إلى تأصيل عوامل محددة يمكن تقعيدها لتحليل ظاهرة الحب من أول نظرة، إلا أنه حتى الآن يقوم على احتمالات لا يمكن إثبات تكرارها لإحداث حب مدبر بين طرفين. ويقول غازي القصيبي في روايته حكاية حب عن الحب من أول نظرة: «إني أؤمن بالحب الذي يولد من النظرة الأولى، لا يوجد تفسير علمي لهذا الحب. يوجد تفسير ميتافيزيقي منذ أيام الإغريق، يولد الإنسان بشطر نفسه، ويعيش حتى يرى الإنسان الذي يولد بالشطر الآخر، وفي لحظة اللقاء يمتزج الشطران، و يجيء الحب،..تناسخ الأرواح، أنت تحب امرأة تراها للمرة الأولى لأنك سبق أن قابلتها قبل ألف سنة في حياة أخرى». وارتبط الحب من أول نظرة «بوصف العينيين» كونهما مصدر استدراج للوقوع في فخ الحب، ولعل أشهر بيت في العربية قول جرير: إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا وقول علي بن الجهم: عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري ولكن بشار بن برد تمرد على ارتباط الحب بعيني المحبوبة، منتقلاً إلى صوتها، ولعل هذا الانتقال كان بسبب حالته، فيقول: يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا بمن لا ترى تهذِي فقلت لهم والأذن كالعين تُؤتي القلب ما كانا لكن الحب يظل لعنة ومحنة تصيب أصحابه، وليس نعمة أو منحة، لعنة أحاطت ذلك الحب بمتلازمات بالحزن والألم والخيانة والموت. *متلازمة الحب والحزن. وكأنهما متلازمة مصيرية لكل عاشقين وإن ظهرت علاماتهما على لسان الحبيب دون الحبيبة، وكأنها قاتل متسلسل، فيقول أبو فراس الحمداني: وماكان للأحزان لولاكِ مسلكا إلى القلبِ لكن الهوى للبلي جسرُ وقال نزار قباني :» علمني حبكِ أن أحزن..أدخلني حبك سيدتي..مدن الأحزان..وأنا من قبلك لم أدخل..مدن الأحزان «. *الحب و التوكسيك متلازمة أخرى ألهمت الشعراء حكايات الحب «التوكسيك» لاستدامة الألم وتقديمه كصلوات على مذبح الحب. وكانت المرأة هي مصدر العلاقة السامة؛ التي تجلب للحبيب العذاب والألم، سواء بخيانتها أو تمردها، ودائماً ما كانت المرأة هي مصدر التوكسيك، لأنها ظل بلا ملاح ولا لسان. قال عمر أبو ريشة في علاقة التوكسيك مع محبوبته: قالت مللتك اذهب لست نادمة على فراقك ..إن الحب ليس لنا سقيتك المر من كأسي شفيت بها حقدي عليك ومالي عن شقاك غنى وقال فاروق جويدة في ذات الظاهرة: لا وقت للغفران قومي وارحلي لن تفيدك ثورتي وعتابي إني طردتك من مفاتن جنتي وعليك حقت لعني وعقابي و نستثني في هذا المقام قصيدة «ثورة الشك» لعبدالله الفيصل الذي جعل فيها المرأة هي ضحية الخيانة: يقول الناس إنك خنت عهدي ولم تحفظ هواي ولم تصني أجبني إذ سألتك هل صحيح حديث الناس خنت؟ألم تخني ربط الجاحظ الحب بأنه «الشعور العقلاني البعيد عن اللهو» ويتفق معه في هذا القول طه حسين عندما قال عن الحب «الشك المؤلم المضني أنه يتصل بالقلب»، وأوضح ابن سينا في كتابه «القانون في الطب» أن من علامات المُحب «الهذيان وتشتت الانتباه» وقارن بين العشق والاكتئاب، وخاصة عندما يُهجر الحبيب، فيعاني من حالة نفسية ويدخل في نوبة حزن. ويقسم ابن عربي الحب إلى ثلاث درجات: «الميل» وهو الذي ينتج عن النظرة الأولى، والحب وهو حاصل الميل، ثم العشق الذي يستولي على صاحبه فيجعله متطرفاً في الحب. *سادية الحب عند ابن الفارض، فمتعة الحب لا تكتمل إلا بالألم فيقول: يا حارقا بالنار وجه محبه مهلا فإن مدامعي تطفيه أحرق بها جسدي وكل جوارحي و احرص على قلبي فإنك فيه إن أنكر العشاق فيك صبابتي فأنا الهوى وابن الهوى وأبيه الحب و العالم الموازي الحب الذي يخرجنا من عالم الواقع إلى عالم افتراضي موازٍ، وهذه الخاصية تتجلى في الحب الصوفي، وهذا حديث آخر.
مشاركة :