المناقشة العلنية في الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تؤدي إلى إدانة الدولة التي تستخدم «الفيتو» من غير مبرر أو ضرورة، أو تتعسف باستخدامه في حالات لا تستدعي ذلك من وجهة نظر المجتمع الدولي. د. بلال عقل الصنديد بتاريخ 9 ديسمبر 2023، وجّه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، دعوة لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن بغية التوصل الى وقف دائم وفوري لإطلاق النار في قطاع غزّة، وذلك استناداً إلى المادة (99) من ميثاق الأمم المتحدة، التي تنص على أن «للأمين العام أن ينبه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدولي»، وهي من المرات القليلة التي يلجأ فيها الأمين العام للمنظمة الدولية إلى تفعيل حقه الذي خولته إياه المادة المذكورة منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، مما يدّلل بشكل واضح على محاولة بعض المتمسكين ببقايا الإنسانية دفع مجلس الأمن لاتخاذ موقف صارم من نزيف الدم الذي سببه الجبروت الإسرائيلي في القطاع المحاصر. ورغم المناشدات العديدة والمحاولات الحثيثة للوصول الى تهدئة تخفّف من وطأة الأوضاع المتفاقمة التي يعانيها أهل القطاع دون تمييز بين مدني ومقاتل أو بين كبير وصغير، فإن مجلس الأمن الدولي فشل في اتخاذ قرار يقف فيه الى جانب الإنسانية في مواجهة آلة البطش العسكرية، وذلك بـ«فيتو» أميركي عبّر من خلاله ممثل الولايات المتحدة الأميركية عن موقف بلاده المعارض لوقف إطلاق النار، بحجة غموض الصياغة، وعلى أساس أن وقف القتال لن يكون مستداماً دون ضمانات من «حماس» بوقف إطلاق الصواريخ من القطاع! وغني عن البيان أن حق «الفيتو» أو «الاعتراض» هو حق منح بموجب المادة (27) من ميثاق الأمم المتحدة للدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وذلك في حقيقته ضمان لمصالحها الحيوية، كونها الأقوى والمنتصرة في الحرب العالمية الثانية، بما يمكن كل منها من تعطيل أي مشروع قرار قد يتخذه مجلس الأمن بما لا ينسجم مع موقفها من الموضوع المطروح، وذلك حتى لو وافقت جميع الدول الأعضاء الأخرى على إصداره. ووفق المتوافر من معلومات، تم استخدام حق الفيتو 293 مرة منذ تأسيس مجلس الأمن الدولي، 120 مرة منها من قبل الاتحاد السوفياتي ووريثته روسيا، ومن ثم تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية التي استخدمت هذا الحق 114 مرة، وتأتي الصين في المرتبة الثالثة، بـ55 مرة. ومن الملاحظ أن السمة الطاغية لاستخدام الولايات المتحدة الأميركية لحق الفيتو كانت دعماً للكيان الإسرائيلي، وتعطيلاً لأي إدانة لتصرفاته وعدوانه المتكرر منذ 1948 على الفلسطينيين والعرب! وقد شهد عام 1973 أول «فيتو» أميركي لمصلحة الكيان المحتل، إذ عمدت الولايات المتحدة الأميركية الى تعطيل مشروع قرار يطالب «إسرائيل» بالانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها. وباستعراض سريع لتاريخ المواقف الأميركية من مختلف القضايا العربية والفلسطينية التي تم تداولها في مجلس الأمن الدولي، نلاحظ أن المرة الوحيدة التي لم تستخدم فيها الولايات المتحدة حق النقض ضد مشروع قرار يتعلق بإسرائيل كانت في عام 1972، إذ دعا مشروع القرار جميع الأطراف إلى الوقف الفوري لكل العمليات العسكرية وممارسة أكبر قدر من ضبط النفس لأجل السلام والأمن الدوليين. وبالمقابل لم تتوان الولايات المتحدة الأميركية في عام 1976 عن استخدام حق الاعتراض لتوقيف قرارين في يناير ومارس من العام المذكور كان من شأنهما لو صدرا- كل في نطاق مضمونه- أن يتم الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير وإقامة دولة مستقلة وفقا لميثاق الأمم المتحدة، ويوجب على إسرائيل الانسحاب من الأراضي المحتلة منذ يونيو 1967، مع إدانة المستوطنات اليهودية ومنع أية أعمال عدائية تقوم بها «إسرائيل» ضد السكان العرب في الأراضي المحتلة. وفي الاتجاه المنحاز نفسه، لم تكن السيطرة على الجزء الأكبر من فلسطين التاريخية وعلى القدس، ولا قضم مرتفعات الجولان ولا اجتياح لبنان وصولاً الى بيروت، كافياً لأن تسمح الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي بصدور قرارات من مجلس الأمن من شأنها إدانة «إسرائيل» أو وقفها عن مخالفاتها الصارخة لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني... كما لم تكن الانتفاضة الفلسطينية، ولا بناء «الجدار العازل»، ولا سياسة الاستيطان، ولا اغتيال القادة والشخصيات العربية المقاومة، في نهايات القرن العشرين وبدايات الألفية الثالثة مبرراً كافياً للولايات المتحدة الأميركية يمنعها من استخدام حق النقض لتعطيل أي قرار يمسّ بمصالح الكيان الغاصب أو يعوق سياساته التوسعية أو يضع حداً لتصرفاته الدموية والعنصرية. وعليه لم يكن مفاجئاً أن يقف الاعتراض الاميركي- في ديسمبر الفائت- في وجه تأييد أعضاء مجلس الأمن لمشروع قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، كما لم يكن مستغرباً فشل مجلس الأمن في اعتماد قرار قدمته روسيا في أكتوبر 2023 بشأن وقف إطلاق النار في غزة لأسباب إنسانية، بعد أن فشل مشروع القرار في الحصول على الأصوات الكافية لتمريره نتيجة الرفض الأميركي والمجاهرة الأوروبية بالدعم المطلق للكيان الإسرائيلي. *** من المؤسف حقاً أن يصل المجتمع الدولي الى هذا الحد من العجز والتغاضي عن الانتهاكات المتمادية لحقوق الإنسان، الأمر الذي يمّكن «إسرائيل»- ومن مثلها أو يدعمها من الدول- بالاستمرار في مخالفاتها الصارخة لكل الشرائع الدولية وجميع القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية التي من المفترض أن تحكم العالم! ويذكر في السياق، أنه بعد الزيادة الملحوظة في استخدام حق النقض في العقود الأخيرة نجح الحريصون على مصداقية الهيئة الأممية وهيبة القانون الدولي بالضغط نحو إصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة تستعيد من خلاله الجمعية بعضاً من دورها المرسوم لها في ميثاق الأمم المتحدة بشأن إرساء السلام وتحقيق الاستقرار العالمي، وتثبيت القيم التي قامت عليها المنظمة الأممية. وبالفعل وبعد سنوات من الجهود والمشاورات الحثيثة، نجحت الجمعية العامة للأمم المتحدة في أبريل 2002 بإصدار قرار حاز الإجماع يمكّنها من أن تعقد اجتماعاً في غضون 10 أيام من استخدام حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن لمناقشة الظروف التي تم فيها استخدام هذا الحق. وهذا بما لا يرقى الى الشك تطور في السياسة الدولية يصب في خانة دعم القضايا الإنسانية وتكريس فعالية القانون الدولي، حيث إن المناقشة العلنية في الجمعية العامة قد تؤدي ربما الى إدانة- ولو كانت غير فاعلة أو ملزمة- للدولة التي تستخدم «الفيتو» من غير مبرر أو ضرورة أو تتعسف في استخدامه في حالات لا تستدعي ذلك من وجهة نظر المجتمع الدولي. * كاتب ومستشار قانوني.
مشاركة :