ليس فقط مجافاة لواقع الحال وتجنيا صارخا على حقائق الأمور، بل هو نفاقٌ سياسي فاضح أن يتصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هاتفيًا برئيس النظام السوري ويبارك له بـ«استعادة تدمر»، وكأن جيشه هو الذي استعادها، وكذلك فإن كل الحقيقة أن يَرُدَ بشار الأسد على مُهنِّئه أو معلمه وولي نعمته بالقول، صادقًا: لولاكم لكانت استعادة هذه المدينة الأثرية التاريخية مستحيلة! والمعروف أن هذا النظام ومعه الروس كان قد استدرج هذا التنظيم الإرهابي، أو اتفق معه على احتلال هذه المدينة التاريخية، لإثارة ضجة عالمية، وإظهار أنّ بقاء بشار الأسد رئيسًا لسوريا ضرورة لا غنى عنها للحفاظ على هذا الإرث الحضاري، وهكذا وبالتالي للادعاء بأن الأولوية يجب أن تكون لمواجهة «داعش» ودحره والقضاء عليه، وليس لإسقاط هذا الرئيس الذي كان على وشك السقوط هو ونظامه، قبل التدخل الروسي في هذه الدولة العربية، التي من المفترض أنها مستقلة وذات سيادة، ولا يحق لدولة أجنبية ليست من نسيج هذه المنطقة التدخل في شؤونها الداخلية، خلافًا لإرادة ورغبة غالبية أهلها. والواضح، إلا لمنحاز لروسيا وهذا النظام، الذي تطاول سابقًا ولاحقًا على شعب سوريا العظيم فعلاً أكثر من اللزوم، أو أعمى بصرا وبصيرة لا يعرف «الخمْس من الطّمْس»، أنّ غزوة تدمر الجديدة هذه أرادها الروس جرعة إنعاشية لتعزيز أوضاع بشار الأسد في المعركة التفاوضية الصعبة جدًا، التي من المؤكد أنه سيخسرها في نهاية الأمر لا محالة، فالهدف هو القول للأميركيين والأوروبيين والعالم بأسره أنّ نظامًا قد حقق هذا الإنجاز «الاستراتيجي» الهائل على هذا التنظيم الإرهابي، يجب التمسك به، ومدّه بكل عوامل القوة والصمود والاستمرار حتى القضاء على «داعش» وعلى كل التنظيمات الإرهابية في سوريا وفي المنطقة كلها، وهذا مع أنّ المؤكد أنّ هذه نسخة جديدة من تمثيلية احتلال هؤلاء الإرهابيين لهذه الأوابد التاريخية قبل نحو عامٍ. والمفترض أن الأميركيين والأوروبيين وكل المعنيين بما يجري في سوريا، يعرفون أنّ استدراج «داعش» والاتفاق معه على احتلال تدمر، كان مؤامرة معلنة وفي وضح النهار، وأنّ هذا التحرير، الذي بادر بوتين لمباركة الأسد باجتراحه والذي عَزَاهُ الرئيس السوري لأهله عندما رد على الرئيس الروسي بالقول: «لولاكم لكانت هذه الاستعادة مستحيلة»، كان هو أيضًا تمثيلية مضحكة وتآمرًا فاضحًا، إذْ إنّ الهدف هو إعادة تسويق وترويج نظام مجرم واستبدادي ألحْقَ ببلدٍ يعتقد أنه بلده كل هذا الدمار والخراب وشرّد أكثر من سبعة ملايين من شعب، لا يزال يعتقد أنه شعبه، في أربع رياح الأرض. وكلُّ هذا أشارت التقارير الدولية الموثقة رسميًا إلى أنّ أعداد ضحاياه من المدنيين والعُزَّلْ قد تجاوزت الثلاثمائة ألف، وهذا غير المفقودين وغير نزلاء السجون المعروفة وغير المعروفة، والتي بعضها فوق الأرض وأكثرها تحتها. إنّه في هذا العصر، عصر الأقمار الفضائية وعصر وسائل الاتصال الاجتماعي، حيث الهواتف الصغيرة المحمولة غدت وسيلة لنقل أقل وأصغر حدث في آخر زاوية من الكرة الأرضية، لم يعد ممكنًا إخفاء استدراج «داعش» والاتفاق معه على احتلال تدمر بعد انسحاب «قوات الجيش العربي السوري» منه وهي تُلوّح بالعلم العربي وبشعار: «أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة»: كما أنه لم يعد ممكنًا إخفاء أن الذين «حرروا» هذه المدينة التاريخية هم الروس بقواتهم الخاصة وبسلاحهم الجوي وقاصفاتهم الاستراتيجية، ومعهم عشرات التنظيمات الطائفية التي تم استيرادها من العراق وإيران، وبالطبع من لبنان ومن الكثير من الدول الآسيوية، وهو قبل هذا كله تمثيلية الانسحاب التي جاءت صفقة جديدة مع «داعش». إنّ هذا هو واقع الحال، ولو أنّ باقي ما تبقى من جيش نظام بشار الأسد لديه القدرة على «الاستعادة» والتحرير لكان حرر المناطق المحيطة بدمشق، ولكان حرر حلب ولكان حرر إدلب وسهل الغاب والزبداني، ولذلك وما دام أن الروس هم، باعتراف الرئيس السوري نفسه، من اجترح إنجاز تدمر، فإنه من حق المعارضة السورية أن تبقى تخشى الغدر الروسي والخدع والمناورات الروسية، وإنه من حقها أيضًا أنْ تساورها الشكوك بالنسبة لما يتم ويجري بين موسكو وواشنطن، وأنْ تُبدي أيضًا بعض التحفظ على صياغة بعض بنود بيان الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا الأخير، الذي ضمّ اثني عشر بندًا في بعضها غموض غير إيجابي، وبخاصة تجاه المسألتين الرئيسيتين لحل الأزمة السورية، وفقًا لاتفاق «جنيف1»، أي مسألة هيئة الحكم الانتقالي ومسألة ضرورة رحيل رئيس هذا النظام، بمجرد الاتفاق والتفاهم على المرحلة الانتقالية وقضاياها الرئيسية. إنّه لا شك في أنّ بيان دي ميستورا هذا، الآنف الذكر، قد تضمن نقاطًا إيجابية رئيسية وكثيرة، لكن المشكلة تكمن بالإضافة إلى هذا الغموض المثير لكثير من الشكوك والتكهنات وغير الإيجابي على الإطلاق، وبخاصة فيما يتعلق بالمرحلة الانتقالية والهيئة الحاكمة أنّ هناك «غمزا ولمزا» بين الأميركيين والروس من غير الممكن التعامل معه وفقًا لقاعدة ضرورة تغليب النوايا الحسنة على النوايا السيئة، وأنّ هناك تصريحات روسية أشارت إلى أنّ وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وافق على إرجاء البحث في مصير الأسد في هذه المرحلة.. وذلك من دون الإشارة إلى المرحلة التي من الممكن أنْ يتم فيها مِثْلُ هذا البحث!! ربما أنّ الأميركيين والروس، الذين اتفقوا على تداخل الأزمة الروسية وأزمة أوكرانيا، قد اتفقوا على أن تنحي بشار الأسد واستثناءه نهائيًا من مستقبل سوريا سيتم بعدم ترشحه للانتخابات الرئاسية المنصوص عليها في «جنيف1» ومحادثات فيينا الأولى والثانية وقرار مجلس الأمن الدولي 2254 وبيان ميونيخ. لكن هذا الاتفاق، حتى إنْ كان صحيحا بالفعل، فإنه لا يمكن الاطمئنان إليه، وبخاصة أن هناك محاولات روسية لتغيير موازين القوى في الميدان وساحات المواجهة، وأن هذا النظام بطبيعته مناور ومخادعٌ يقول شيئا في الليل، ويتخلَّى عنه ويعمل ضده مع بزوغ شمس اليوم التالي. ولهذا، فإنّ المفترض أنْ تبادر المعارضة لمواجهة هذا كله إلى إعادة ترتيب صفوفها عسكريًا وسياسيا وأنْ تستبدل هذه الأطر القائمة الآن بأطر دولة حقيقية وفعلية كاملة من الرئاسة المؤقتة إلى الحكومة الانتقالية إلى وزارة خارجية ووزارة دفاع وهيئة أركان مشتركة ووزارة إعلام.. ووزارة مالية ووزارة شؤون الأسرى والمعتقلين ووزارة لاجئين ومُهجرين.. ثم، والأهم هو ضرورة عودة كل العسكريين من ضباطٍ وجنود وفنيين إلى الداخل، لأنه لا بد من الانخراط كليًا في هذه المرحلة الانتقالية المطروحة التي من الواضح أنها ستكون طويلة وصعبة والتي من الواضح أيضًا أن هذا النظام سيواصل جهوده للانقلاب عليها، ومن غير المستبعد أن يكون هذا بمساعدة حلفائه الروس والإيرانيين!!
مشاركة :