وثّقت مراسلة وكالة الأنباء السعودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بالكلمة والصورة، محطات من رحلتها وأسرتها من بداية العدوان الإسرائيلي إلى "الغرق في مخيّمات النزوح"، كاشفة عن الوجه الأبشع للعدو الإسرائيلي من جهة، وللمصير المجهول من جهة أخرى. وبأحرف من ألم ووجع على وطن سليب، دوّنت محطة تلو محطة، مراحل معايشتها للفرار من عدوان همجي، وصعاب كادت أن تلامس إزهاق الروح. المحطة الأولى: بيت حانون "العدوان الإسرائيلي" بعد السابع من أكتوبر، انهالت قذائف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، ومعها بدأت رحلة ألم ومعاناة تجرّعتُها، كما تجرّعها كل فلسطيني في القطاع... كان القصف شديداً، فلم أستطع لملمة أوراقي وجهازي المحمول، وحتى احتياجاتي من الملابس والمقتنيات، اضطررتُ إلى أنْ أتركها ورائي. كان كل همي الخروج مع أسرتي بأقصى سرعة من منزلنا الواقع في بيت حانون - شمال غزّة، وما هي إلا بضع ساعاتٍ من خروجنا، حتى أغارت المقاتلات الإسرائيلية على المدينة مُدمِّرةً منزلي الذي كان مملكتي، ومثله أصبح معظم منازل بيت حانون الجميلة تحت الركام. المحطة الثانية: مخيّم البريج "الليل الطويل" توجّهنا إلى مخيّم البريج وسط القطاع، على وقع القذائف المنهمرة كمطر الشتاء، إذ بين كل قذيفة تسقط هنا وصاروخ يسقط هناك، تتصاعد ألسنة اللهب إلى السماء... فيما كان همّي الوحيد الوصول مع عائلتي إلى مكان آمن، أضمن فيه الحصول على الكهرباء، والإنترنت لمواصلة إرسال تطوّرات العدوان الإسرائيلي إلى وكالة الأنباء السعودية. مكثنا 6 أيام في مخيّم البريج، منتظرين وصول "شبح الموت" الذي كان يلاحقنا ويحسب علينا أنفاسنا، إلى أنْ كان اللحظة الفاصلة، واستهدف طيران العدو المنزل المجاور لموقعنا، بصلية من الصواريخ، حولته إلى ركام تتصاعد منه ألسنة اللهب، والدخان الأسود، الذي كاد أنْ يفتك بنا جميعاً لولا لطف الله. ورغم أنّنا تحت جنح الظلام، انتقلنا من منزل لآخر على مدار ليل طويل جداً، ظننتُ لوهلة أنّ صبحه لن ينبلج أبداً.. بسبب القصف المدفعي الذي أمطرنا، وأصواته المرعبة التي حبست أنفاسنا كباراً وصغاراً، رافعةً من إيقاع دقات القلوب.. متسائلين: هل سيبزغ الفجر؟!، أم إنّها ليلتنا الأخيرة .. ورغم كل ما كنّا نعيشه مع الخلل في شبكات الاتصالات والإنترنت، تمكّنتُ من إرسال حصيلة الشهداء والجرحى وما خلفه العدوان من تدمير إلى "واس". المحطة الثالثة: مخيّم النصيرات "رحلة التشرّد" واخترق ضوء الفجر عتمة الليل، وانكشف معه حجم الموت والخراب، فكان لا بُدَّ من التحرّك بسرعة من مخيّم البريج، لكن السؤال إلى أين؟!.. فلم يكن أمامنا إلا التوجّه غرباً نحو مخيّم النصيرات وسط قطاع غزّة، حيث استقر القرار على اللجوء إلى مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) كمركز إيواء في المخيم. في ذاك اليوم بدأت رحلة معاناة جديدة من التشرّد والقهر والألم.. لا طعام ولا مياه صالحة للشرب، ولا فراش نركن إليه في مركز الإيواء، تذوّقنا مرارة النكبة والتشرّد التي عاشها أجدادنا عام 1948.. ضجيج الأطفال وصراخ النساء يتعالى في كل مكان.. الجميع يحاول الدخول إلى المدرسة للنجاة من القصف وشظايا الصواريخ.. والصراع من أجل البقاء سيد الموقف، إلى أنْ أٌدخلت وأسرتي إلى أحد الصفوف الذي كان للدراسة، وأصبح شاهداً على "رحلة تشرّد" استمرّت لـ77 يوماً. كانت أياماً ثقيلة، في غرفة تضم أكثر من 50 طفلاً وامرأةً، حيث من المستحيل الحصول على قسط من الراحة وسط دوي القذائف والصواريخ الإسرائيلية وأنين الأطفال، الذين كانوا بالكاد يحصلون على وجبة طعام، إذ كان الحصول على الطعام والشراب "مهمة مستحيلة"، وإنّ حصّلناها فبأسعار خيالية لم نشهدها من قبل أبداً. المحطة الرابعة: مركز الإيواء "إرسال الأخبار" في مركز الإيواء، كانت المخاطرة لشحن هاتفي النقّال والحصول على الإنترنت من أجل مواصلة عملي الصحفي "مهمة شبه مستحيلة"، في ظل استمرار القصف الإسرائيلي الذي دمّر معظم شبكات الاتصال في المخيم، لكن بعد جُهد محفوف بالمخاطر، وسعي حثيث لامس الموت أحياناً، تمكنتُ من التقاط شبكة إنترنت في مكان بعيد عن مركز الإيواء. في ذلك اليوم، تساقطت الصواريخ على بُعد نحو 100 متر فقط من موقع تواجدي، وارتفعت معها سُحُب اللهب الحمراء، والأتربة التي غطت وجوه المارّة، فانعدمت الرؤية، ولم يعد الواحد منّا قادراً على تمييز الشوارع للهروب.. نسمع أصوات الصراخ وتناثر شظايا الصواريخ، فتفقّدتُ نفسي هل نجوت من القصف.. لأيمّم وجهي مُسرعة شطرًا إلى أحد أزقة المخيّم المؤدية إلى مركز الإيواء. وكانت مأساة جديدة.. مركز الإيواء، الذي أقيم وأسرتي فيه، تعرض محيطه للقصف، وسيارات الإسعاف في المكان، شهداء على باب المركز.. أطفال يضمدون جراحهم بأيديهم بعدما أصابتهم الشظايا في الرؤوس، فيما ساحة المركز غطّتها مخلفات القصف... كان همّي الوحيد معرفة مصير عائلتي، فتوجّهتُ إلى "الغرفة الصفية".. والحمدلله الجميع بخير، قم تفقدتُ سيارتنا المركونة بالقرب من باب مركز الإيواء، فلم تتضرر كثيراً، اللهم إلا تحطم الزجاج وبعض الأضرار الخفيفة. المحطة الخامسة: جنوب القطاع "السير وسط الموت" ولكن بعدما اشتد القصف في محيط مركز الإيواء، أصبح من المستحيل البقاء في مخيّم النصيرات، لاسيما في ظل توافد الدبابات الإسرائيلية، واقترابها من المخيّم، كان لا بُدَّ من الرحيل، لاسيما مع اشتداد القصف الإسرائيلي، بعد 77 يوماً من المعاناة والجوع والعطش. توجّهنا جنوباً إلى مدينة رفح، التي تقع في أقصى جنوب قطاع غزّة، في ظل رحلة محفوفة بالمخاطر وبالموت بكل ما للكلمة من معنى، لأن العبور سيكون عبر "شارع الرشيد" على طول الشاطئ الغربي للقطاع، بما يعنيه ذلك من انكشافنا أمام قذائف البوارج الحربية الإسرائيلية الرابضة قبالتنا التي لا تتوقف عن القصف.. ولا يقتصر الأمر على بوارج الاحتلال، بل يُضاف إليها خطر وجود الدبابات الإسرائيلية في وسط مدينة خان يونس، لكن رغم كل ذلك كان لا بد من المخاطرة والخروج من المخيّم، حيث شقّت آليتنا طريقها بما تبقى فيها من وقود، لم يكن متوفّراً أصلاً في قطاع غزّة بسبب استمرار إغلاق المعابر. المحطة الأخيرة: مخيّم رفح "عناء النزوح" أخيراً، وبعد رحلة شاقة قطعنا خلالها نحو 25 كيلومتراً من مخيّم النصيرات حتى مدينة رفح، بدأت رحلة البحث عن خيمة تأوينا في ظل الطقس العاصف والممطر، وبرودة الأجواء التي تنخر العظام. لكن فشلت كل جهودنا في الحصول على خيمة، فجهزّنا بيتاً من البلاستيك وبعض الأقمشة، بعد جهود ومعاناة كبيرة لتأمين الخشب، لكن حصّلنا البلاستيك وبعض الأقمشة، خاصة أنّ المدينة تؤوي نحو 1.4 مليون نازح، وجميعهم منهمكون في الحصول على مأوى لأطفالهم.. هنا بدأت رحلتنا مع المصير المجهول.. لجوء، معاناة، أمل ضائع، لا ماء ولا كهرباء، نعيش استعادة لنكبة كل الفلسطينيين، بل فصول نكبة جديدة أكثر ألماً، عمّا عاشه الأجداد يوم نكبة 1948.. حلم العودة إلى الوطن أصبح حلماً بخيمة على أنقاض أرض مسلوبة... ومعها تبقى فصول المعاناة تحت سطوة الاحتلال الإسرائيلي مستمرّة.
مشاركة :