إن البحث في اللغة العربية وتغير دلالات كلماتها أصبح ضرورة ملحة خصوصا في عصرنا الرقمي، حيث أصبح التواصل بين الناس يتجاوز الحدود والقارات بفضل الشبكة العنكبوتية والأجهزة الذكية بمختلف أحجامها ووظائفها، ونظرا لأهمية اللغة في عملية التواصل بين الناس، فإن العناية بهذه اللغة أضحت أولوية علمية لا يمكن تغافلها أو تأجيلها. فعناية العرب القدامى باللغة كانت منقطعة النظير ووصلت عند البعض إلى حد التقديس، فالباحث اللساني الموضوعي لا ينكر جهود العلماء العرب والمسلمين في جمع اللغة العربية الفصيحة وتدوينها في المصنفات التي أخذت في البداية شكل رسائل لغوية صغيرة وتحولت بعد ذلك إلى معاجم وموسوعات لغوية ضخمة. فهاهو الخليل قد أبدع في مجال التأليف المعجمي والعروضي والموسيقى، وذاك سيبويه الذي أبدع في كتابه النحوي إلخ. ورغم الجهود الكبيرة التي قام بها علماء العربية القدامى، فإن اللغة العربية تحتاج لأمثال الخليل وسيبويه لكن في بيئة ومناخ علميين، وداخل مختبر لساني مجهز بأحدث التقنيات الرقمية. وتعد بالمناسبة التقنيات الحديثة وسيلة مُساعِدة لتحرير البحث اللساني العربي من الأفكار الموروثة المثبطة، مثل: لم يترك السلف للخلف شيئا، غير أن حقيقة البحث العلمي عكس ذلك، فباب الإبداع والتأليف مفتوح على مصراعيه أمام أصحاب الكفاءة والقدرة العلميتين. ومن هنا، فإن كل مثقف باحث في اللغة العربية، يجب أن يكون قادرا على توظيف علم الإدراك المعرفي، ويتطلب هذا الأمر وعي المثقف العربي بقضيته العلمية حتى يبقى مجال البحث اللساني مفتوحا للبحث والتنقيب والعبقرية. عبقرية المثقف العربي بين التصور الذهني والحقل الدلالي: عرف مجال الكائنات الدقيقة تقدما ملحوظا في القرن التاسع عشر، وبالأخص في القرن الماضي، وكان هذا التقدم نتيجة لتطوير المجهر الذي تم استخدامه في مجالات علمية مختلفة نذكر منها مجال الطب وعلم الأحياء، وبفضل التطور العلمي والتقني تم اكتشاف كائنات لا تُرى إلا بالمجهر، وبذلك نشأت دلالات جديدة لكنها تستند إلى كلمات مثبتة في المعاجم العربية التراثية، مثل: كلمة الجرثومة، إذ يُعَرِّفها لنا ابن منظور كالآتي: "الجُرْثُومة الأصل وجُرْثُومة كل شيء أَصلُه ومُجْتَمَعُه. الجُرْثومة أصل شجرة يجتمع إليها التراب والجُرْثُومة التراب الذي تَسْفيه الريحُ وهي أيضا ما يَجْمَعُ النَّمْلُ من التراب وفي حديث ابن الزبير لما أَراد أن يهدم الكعبة ويبنيها كانت في المسجد جَراثيمُ أي كان فيها أماكن مرتفعة عن الأرض مجتمعة من تراب أو طين أَراد أَن أَرض المسجد لم تكن مستوية (...) وروي عن بعضهم الأَسْدُ جُرْثُومةُ العربِ فمن أَضَلَّ نَسَبه فليأْتهم."[1]انظر لسان العرب (ج.12/ص. 95). أما المعجم الوسيط فيقدم دلالة الجرثومة القديمة منها والحديثة كالآتي: "(الجرثومة) الأصل والغلصمة والتراب المجتمع حول أصول الشجر وقرية النمل وفي علم الأحياء جزء من حيوان أو نبات صالح لأن ينتج حيوانا أو نباتا آخر كالحبة في النبات والبيضة أو البييضة في الحيوان والأحادي الخلية من النبات والحييات (المكروبات) (مج)."[2]انظر المعجم الوسيط (ج. 1/ص. 114). ويُلاحَظ على دلالة الجرثومة، في المعاجم العربية التراثية، أنها تندرج تحت الحقل الدلالي الذي يجمع فيه المفهوم الفوقي (Oberbegriff) بين سمَتَي التجمع والأصل، مثل: تجمع الناس والتربة والغنم، والأصل، مثل: أصل الشجرة وأصل العرب (الأسد). وعندما ننتقل إلى دلالة الجرثومة الجديدة، فسنجدها قد بقيت على المستوى السيماتي في اللغة المفردة كوحدة دلالية تُستعمل غالبا في حقول دلالية مختلفة، مثل: الطب والصيدلة وعلوم الأحياء (البيولوجيا) والصناعة الحربية إلخ، أما في الحقل الدلالي الأول (الطب والصيدلة) فتُستَخدم على شكل تراكيب لفظية، مثل: أدوية مضادة للجراثيم وأمراض جرثومية، وفي الحقل الدلالي الثاني (علوم الأحياء) فنجد تراكيب لفظية مختلفة، مثل: تخصيب الجرثوم وجرثوم النباتات، غير أن الحقل الدلالي الثالث (الصناعة الحربية) فيتقاطع في استعماله لكلمة الجراثيم مع الحقل الأول (الطب والصيدلة) وتكون نقطة التقاطع بين الحقلين الدلاليين الأمراض التي تُسببها الجراثيم عند استخدام الأسلحة الجرثومية. وبناء على الحقول الدلالية المذكورة سنحاول في هذه المقالة الإجابة على السؤالين الآتيين: ما هي الدلالة المشتركة في كلمة جراثيم بين الاستعمال القديم والجديد؟ ما هي العلاقة الترابطية المعرفية النفسية التي تجمع الدلالة التصورية بالمرجع؟ إذا بدأنا بالسؤال الأول فيمكن القول إن دلالة الجرثومة أو الجراثيم في المعاجم العربية المعتمدة في هذه المقالة ذات مكونين الأول يدل على الأصل من أشياء وأحياء، أما المكون الثاني فيدل على تجمع التراب والناس والغنم وغيرها، وبناء على عملية اختيار كلمة الجرثومة القديمة ثم سحب عليها دلالة جديدة، تُعد عملية دقيقة ومُعَبِّرة على دلالة الجراثيم المعروفة في عصرنا، وذلك رغم الاختلاف التام في مجال الحقول الدلالية لكلمة الجرثومة بين القديم والجديد، وتبقى العلاقة الترابطية الدلالية وعلاقة الدلالة التصورية بالمرجع مكمن الدقة في دلالتَي الجرثومة بين القديم والجديد. فعلاقة مانح الصورة (دلالة الجرثومة في المعاجم التراثية) تلتقي بمُستقبِل الصورة (دلالة الجرثومة في المعجم الحديث) في سمتَي الأصل والتجمع من ناحية، وتفترق الصورة المانحة بالمستقبِلة في توظيفهما على مستوى الحقول الدلالية من ناحية أخرى. وتزودنا المعرفة الموسوعية (Weltwissen) بمعلومات حديثة كالآتي: تنقسم الجراثيم إلى مجموعة كثيرة تندرج تحت صنفين: الأول تسمى فيه الجراثيم بالصديقة، أما الصنف الثاني فتكون فيه الجراثيم ضارة، وذلك تحت الحقل الدلالي لعلم الأحياء. وعلى أساس معارفنا العلمية يتم تحديد إيجابية وسلبية الدلالة الإيحائية للجراثيم بحسب وظيفة كل جرثومة على حدة. ومن الجدير بالذكر أن هذه الجزيئات المكونة لعملية تغير الدلالة المعجمي والمترابطة بعضها مع بعض تقوم على تحديد الدلالة المركزية عندما تأخذ العلامات اللغوية الأساسية واجهة الصورة الجشطالتية على أساس تشابهي أو تماسي أو تبايني، وبذلك تُشكل التعابير الإشارية والمحتويات الإشارية مستوى المعرفة المعجمية المكوَّن من تصورات داخلية وخارجية للكلمات وأيضا من علاقات تركيبية أفقية تربط فيما بينها علاقات معرفية وسيماتية تلتقي كلها في اللغة المفردة، على حين تطرح الدلالات التصورية بنيات إدراكية معرفية التي تندرج تحت التصورات الذهنية الخارج لغوية والتي تصل العلامة اللغوية بالمرجع. وبناءا عليه تتيح لنا العلاقات الترابطية السيميائية تحديد تَمَوقُع تغير الدلالة المعجمي الحاصل لأية كلمة في معجمنا الذهني على نحو واضح ودقيق يُمَكننا من تَتَبُّع ظاهرة تغير الدلالة المعجمي، وتساعدنا الترابطات السيميائية المذكورة أيضا على فهم علاقة دلالاتنا التصورية بالمرجع خارج حتى تصل الوحدة الدلالية إلى علامة لغوية مُمَعجمة ومتداولة بين أفراد الجماعة اللغوية العربية. خاتمة آفاق علم الإدراك المعرفي: يعد الاجتهاد الشخصي أو الاستفادة من تجارب ونتائج اجتهادات الآخَرين أمرا مطلوبا وضروريا للدفع بالدرس اللساني العربي إلى الأمام. وليس من المهم في هذا السياق أن نعرض بالتفصيل للجهود اللسانية التي قام بها الغرب، وتفضيل هذا الأخير أو عدم تفضيله على ما قام به العلماء العرب وإنما المهم أن نستفيد من نتائج اجتهادات اللسانيين العربية منها أو الغربية، وذلك بتوظيف نظرية علم الإدراك المعرفي ثم الاستفادة منها في الدرس اللساني العربي. وعليه فإن المثقف الباحث في اللسانيات العربية يستطيع، انطلاقا من مبادئ الإدراك المعرفي الذهني، أن يركز على الجوانب العلمية الأكثر اتصالا باللسانيات المعرفية، بالإضافة إلى التدقيق في منهج البحث المتبع، بهدف إخضاعه لمتطلبات العلم اللساني الحديث وشروطه الأساسية من نظرية وتطبيقية، دون الوقوع في إسقاطات علمية غربية خالصة على التراث اللغوي العربي. ورغم الجهود اللسانية المبذولة من أجل المضي قدما بالدرس اللساني الحديث خصوصا عند معالجة النصوص العربية القديمة، فإن المنطلق المعرفي وأحادية النظرة في تناول الموضوع اللساني وتحليله يمثلان مكمن الضعف والخلل في جل الكتابات اللسانية العربية المعاصرة، فاختلاف التكوين العلمي لكل مثقف باحث يؤدي بالضرورة إلى اختلاف في مناهج ونتائج البحوث اللسانية العربية، مما يعني بقاء هذه البحوث اللسانية المتخصصة في دائرة مفرغة، وهكذا فإن الأسباب المذكورة تمثل مشكلة حقيقية في طريق تجدد وفاعلية البحث اللساني العربي الحديث. فالبحوث العلمية يجب عليها ألَّا تعرف حدودا جغرافية وانتماءات عرقية، وعليها أن تبقى إرثا إنسانيا يساهم في تطوره المثقف الباحث العالِم المختص. مراجع إبراهيم مصطفى أحمد الزيات حامد عبد القادر محمد النجار المعجم الوسيط الناشر: دار النشر دار الدعوة تحقيق: مجمع اللغة العربيةعدد الأجزاء 2 ابن منظور لسان العرب. الناشر: دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، (1414 ه) عدد الأجزاء: 15 Blank A. (1997) Prinzipien des lexikalischen Bedeutungswandels am Beispiel der romanischen Sprachen, Tübingen: Max Niemeyer Verlag Bußmann H. (2002) Lexikon der Sprachwissenschaft, 3, aktualisierte und erweiterte Auflage. Stuttgart: Alfred KrönerVerlag.• Drescher M. (2003) sprachliche Affektivität, Tübingen : Max Niemeyer Verlag. Heringer H. (2011) Texte analysieren und verstehen eine linguistische Einführung,Paderborn : Wilhelm Fink Verlag Kleiber G. (1993) Prototypensemantik Eine Einführung, Tübingen: Narr Verlag. Pafel J./ Reich I. (2016) Einführung in die Semantik Grundlagen -analysen Theorien, Stuttgart : Metzler VerlagRickheit G./Weiss S./Eikmeyer J. (2010) kognitive Linguistik Theorien, Modelle, Methoden, Tübingen und Basel: Francke Verlag Schwarz m. (2008) Einführung in die kognitive Linguistik, dritte, vollständig bearbeitete, Auflage. Tübingen und Basel: Francke verlag [1] [2]
مشاركة :