الأيديولوجيا الشمولية بطبيعتها لا بد وأن تكون اقصائية انتقائية، رافضة للآخر – أي آخر وكل آخر – من باب أنها وحدها من يمثل الحق المطلق، والخير المطلق، والنور المطلق. فالشيوعية والاسلاموية والفاشية والصهيونية وغيرها، هي أنماط من الايديولوجيا الشمولية التي تنطبق عليها صفات العزل والانتقاء وزعم المطلق في كل شيء. الاختلاف هنا ليس في الجذور المعرفية المشتركة، ولا في بنية الحد الأدنى، بقدر ما هو في الاتجاه الذي تأخذه الايديولوجيا في التعبير عن بنيتها الأساسية، وفي الشكل الظاهري الذي تتجسد فيه تعبيراً عن تلك البنية. وفي كل الأحوال، فإن الظاهر يعبّر بأشكال مختلفة عن الباطن، أي عن المنطق الداخلي للايديولوجيا الذي هو واحد في كل الأحوال. ولأجل ذلك، كان العنف، أو القابلية للعنف، مرتبط دائماً بالايديولوجيات الشمولية، سواء كان عنفاً موجهاً نحو الداخل أو الخارج، من حيث أن العنف ما هو في نهاية المطاف، إلا تعبير ملموس عن منطق العزل والإقصاء ونفي الآخر الذي يحكم حركة “جينات” الايديولوجيا الشمولية إن صح التعبير. فالمجازر الستالينية ضد الكولاك و”التحريفيين وأعداء الثورة”، ومجازر الخمير الحمر في كمبوديا، والثورة الثقافية الصينية، و”الجهاد” الاسلاموي العالمي ضد “قوى الكفر”، ومجازر الشيوعيين والبعثيين في العراق وغيرها في دنيا العرب، وجرائم الصهيونية في فلسطين، ليست في النهاية إلا أمثلة عن تعبير سلوكي لمنطق إيديولوجيات تبدو مختلفة ظاهراً، ولكنها في أعماق أعماقها واحدة المنطق والبنية والتركيب. وعندما تكون الايديولوجيا الشمولية ذات محور قومي رئيس، فإنها لا بد أن تكون شوفينية، بمعنى أن غاياتها القومية لا يمكن أن تتحقق أو تتجسد واقعاً، إلا على حساب نفي قوميات أو جماعات أخرى، وذلك كما يعبّر الشعار النازي مثلاً: “ألمانيا فوق الجميع”، وهو الذي تجسد واقعاً في الغزو النازي وتصفية الأعراق البشرية الأدنى – وفق التنظير النازي – وهي عملية سارت جنباً إلى جنب طوال مرحلة الرايخ الثالث، الذي أُريد له أن يكون رايخ الألف عام. من هنا ندرك، وبمجرد قراءة سريعة لكتاب “كفاحي” – إنجيل الحركة النازية – أن الإقصاء ونفي الآخر، لا بد أن يتجسد فعلاً وسلوكاً في ما لو حكمت مثل هذه الايديولوجيا، وهو ما حدث بالفعل. فقد قامت النازية بتصفية خصومها في الداخل أولاً، ثم اتجهت إلى الخارج نافية الحياة عن جيرانها من أجل أن تحيا هي، وتفوقت في ممارسة العنف والإقصاء حين بدأت في تصفية أعراق “دنيئة” معينة، وفق ما أُريد له أن يكون تنظيراً علمياً عنصرياً. من هذا المنطلق، فإنه ليس من المستغرب أن تقوم النازية بعمل “محرقة”، بل ومحارق عديدة ضد هذا العرق البشري أو ذاك، وهو ما حدث ليهود أوروبا وغجرها مثلاً، وما كان سيحدث لأعراق أخرى ومنهم العرب لو سادت النازية العالم، أو استمرت لألف عام كما هو مخطط لها، وإن كان اليهود هم المستهدفون الأوائل منذ أن عبّر هتلر عن ذلك صراحة في “كفاحي”، قبل أن يستلم الحكم بحوالي عشر سنوات. أن يحاول البعض تبرئة النازية من جرائمها، مباشرة أو بشكل غير مباشر، وعلى رأسها تصفية الأعراق غير المحبذة، مسألة غاية في الخطورة من حيث إعطاء مبرر لممارسة الإقصاء بالعنف لايديولوجيات أخرى يسيرها المنطق ذاته، وتقوم على البنية ذاتها، حتى وإن لم يكن بشكل صريح كما فعلت النازية، وذلك كما يفعل البعض بإنكار حدوث المحرقة اليهودية إبان الحقبة النازية. والقضية هنا ليست قضية عدد الذين التهمتهم المحرقة أو هويتهم، هل هم ستة ملايين أو أكثر أو أقل، وهل هم من اليهود فقط أم أعراق أخرى، بقدر ما أن القضية في المبدأ نفسه، وفي الموقف ذاته. فالذي يقتل يهودياً لأنه يهودي، إنما يعطي المبرر لآخر أن يقتل العربي لأنه عربي، أو المسلم لأنه مسلم، أو المسيحي لأنه مسيحي، أو الفلسطيني لأنه فلسطيني، وعلى ذلك يمكن القياس. فالنازية مثلاً، وغيرها من ايديولوجيات الحق المطلق، مرفوضة لا لأنها قامت بقتل أعراق معينة، ولا لأنها غزت جيرانها وتسببت في مقتل الملايين من الناس، ولكن لأنها عنصرية المحتوى، وعلى استعداد منطقي لأن تصفي من لا يتوافق مع تنظيرها، حتى وإن لم تأتها الفرصة للقيام بذلك فعلاً. النازية، وغيرها من الايديولوجيات الشمولية، مهيأة لأن تسفك الدماء، وتستأصل من لا يتوافق معها (عرقاً كان ذلك أو فئة أو طائفة أو طبقة)، ولهذا السبب يأتي رفضها وضرورة محاربتها. من هنا تأتي ضرورة رفض إنكار حدوث المحرقة النازية لليهود وغيرهم. قد يختصم المؤرخون حول عدد من ذهب ضحية هذه المحرقة لدوافع علمية بحتة، وقد يختلفون حول أسباب حدوث المحرقة، ولكن أن تأتي دولة أو زعامة أو جماعة أو حزب أو جهة تنتمي إلى عالم اليوم، فتنفي وجود المحرقة جملة وتفصيلاً، بدوافع سياسية أو إيديولوجية معينة، فهو في الحقيقة إنما يبرر للآخرين اتخاذ الموقف ذاته منه ومن الهوية التي ينتمي إليها، طالما أن المنطق في كل الأحوال واحد. أن يُرفض الوجود الإسرائيلي في المنطقة، أو أن يُدان الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ عربية، أو أن يكون هناك صراع على المنطقة بين إيران وإسرائيل، لا يعني بحال من الأحوال رفض اليهود لأنهم يهود، ولا يعني لي عنق التاريخ لنفي حادثة كريهة في التاريخ البشري قد تحدث وتتكرر مرة أخرى. وبعيداً عن مصداقية الحديث عن المحرقة، بمعنى هل حدثت أم أنها فبركة صهيونية الغرض منها استدرار العطف على اليهود لأغراض معينة ومتعددة، يأتي السؤال الأهم في هذه النقطة: ماذا تستفيد إيران أو بعض ميليشياتها أو غيرها من دول ومنظمات وإيديولوجيات تتخذ الموقف ذاته، من إنكار قضية، سواء صحت أم لم تصح، فإن نكرانها سوف يكون جالباً للضرر أكثر من جلبه للنفع، هذا إن كان هنالك أي نفع؟! بل ان المصلحة تستوجب تأكيد حدوث مثل هذه الحادثة من أجل نفع الذات أولاً، وتأكيداً للمشاركة في الإنسانية ثانياً. فحين تؤكد مثل هذه الحادثة، فإنها تكون مبرراً لعدم تكرارها ثانية في حق شعوب أخرى، ومن ضمنها الشعب الفلسطيني ذاته. فأن تقوم النازية بتصفية الأعراق وفق تنظير عنصري، هو منطلق لشجب الصهيونية وفق التنظير ذاته، والقول ان اليهود الذين تعرضوا للتصفية من دون أدنى مبرر، فقط لكونهم يهوداً، يقومون اليوم بالفعل ذاته ويمارسون السلوك ذاته الذي قامت به النازية ولكن ضد الفلسطينيين. ولكن المنطق واحد في كلا الحالتين، ومن هنا يمكن إدانتها، – أي الصهيونية – بالمنطق ذاته الذي أدانت هي به المحرقة النازية، وكان ذلك حافزاً لها لأن تنمو وتترعرع، وتكسب عطف العالم وتأييده لقيام دولة يهودية خالصة. ومن ناحية إنسانية محضة، فإن تأكيد حدوث محرقة من نوع ما، وشجب مثل هذا الفعل، هو تأكيد على حضارية القائل به، من حيث أنه ضد التفرقة بين بني الإنسان، الذين هم كلهم لآدم وآدم من تراب، حتى لو كان هناك كره أو رفض أو إدانة لهذه الهوية أو تلك الفئة من الناس، وهذا هو في النهاية ما يكسب النفس احتراماً لذاتها، وعندما تحترم النفس ذاتها، تحترمها كل الأنفس.
مشاركة :