ربما شعر البعض بالإحباط لأن قرار محكمة العدل الدولية بشأن الدعوى المرفوعة من دولة جنوب أفريقيا ضد اسرائيل لم يتطرق بشكل مباشر إلى موضوع الوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي على غزة. لكن لا مجال للشك ان هذا القرار جاء نصرا كبيرا للفلسطينيين، وتكذيبا للرواية الاسرائيلية التي تحاول إسرائيل ترويجها للعالم وحاولت تسويقها لدى المحكمة. لذا من المفيد ان ننظر للقرار وتداعياته من الزوايا الانسانية والقانونية والأخلاقية. من الناحية الانسانية، فان خيبة أمل الفلسطينيين ومناصريهم حول العالم لعدم إصدار المحكمة قرارا ملزما وفوريا لإطلاق النار مفهوم تماما. فمن يتعرض لمثل هذا القصف الوحشي لما يقرب من أربعة أشهر، ولمثل هذه الخسارة البشرية والكلفة المادية التي فاقت كل تصور، كان يأمل بموقف مباشر وصريح يُنهي الحرب الهوجاء عليهم. ولم يبدد من مخاوف هؤلاء الناس رأي قانوني حصيف يقضي بأن تطبيق القرارات التي خرجت بها المحكمة لن يكون ممكنا دون وقف كامل لإطلاق النار. فهم يشعرون، وهم محقون، بأن إسرائيل لن تلتزم بهذا القرار، كعادتها فيما يتعلق بالقرارات الدولية الصادرة بحقها. لهذا، فان قرار المحكمة على أهميته لا يثني عن ضرورة استمرار الجهود المبذولة للضغط دوليا باتجاه إنهاء هذه الحرب كأولوية أولى وقصوى، فالمعاناة الإنسانية المهولة لا يمكن أن تستمر حتى تصحو ضمائر البعض في المنظومة الدولية فيسمحوا بصدور قرار يوقف الحرب، أو حتى تبت المحكمة قانونيا ان كانت اسرائيل ترتكب جريمة الإبادة الجماعية ام لا، بعد ان تمت إدانتها شعبيا وبشكل واسع فلسطينيا وعربيا ودوليا. أما من الناحية القانونية، فإن خيبة الأمل الانسانية لا يجب ان تحجب الأنظار عن الانجاز الهام لقرار المحكمة ولأسباب عدة. فالمحكمة، وبأغلبية كبيرة، قررت ان ما تقوم به اسرائيل يشكل سببا معقولا للظن بارتكابها جريمة الإبادة الجماعية، ولذا فالمحكمة أقرت بصلاحيتها النظر في القضية المرفوعة من قِبَلِ جنوب أفريقيا. يجب هنا ان نُفرق بين الإدانة الشعبية التي لا تحتاج إلى مرافعات ومداولات، وبين الإدانة القانونية التي تتطلب دراسة كل الحجج والبيّنات قانونيا ومن مختلف الأطراف، الأمر الذي يأخذ حكما، وقتا طويلا. إذن، فان مجرد قبول الدعوى وضع إسرائيل قانونيا في موضع الاتهام من أعلى سلطة قضائية دولية. الأمر المهم الآخر هو أن المحكمة لم تأخذ بالرواية الاسرائيلية التي ادعت أن ما تقترفه من أفعال جرمية إنما يأتي في سياق الدفاع عن النفس، ولم تتطرق إلى هذه الحجة بأي شكل، ما يعني انها أسقطتها بالكامل من حيثيات القرار، كما أنها أسقطت حجة الدفاع الاسرائيلية بأن التصريحات التي استشهدت بها جنوب إفريقيا والتي أوحت بنيةِ اسرائيل في اقتراف الإبادة الجماعية للفلسطينيين إنما أتت من أشخاص لا يعبرون عن رأي الحكومة الاسرائيلية. وكان ملفتا أن المحكمة أوردت في حيثياتها بالتفصيل وبالتواريخ، التصريحات التي صدرت عن كبار المسؤولين الاسرائيليين. أُوردُ هنا ما ذكرته حيثيات المحكمة عن تصريح رئيس الدولة الاسرائيلية بأن («كل الشعب الفلسطيني مسؤول. ليس صحيحا ان المدنيين لم يكونوا على علم بما حدث. نحن في حالة حرب، وسنحارب حتى نكسر عظامهم»)، وتصريح وزير الدفاع الإسرائيلي القائل :(«لن يكون هناك كهرباء او طعام او وقود. لقد أمرت بتجاوز كل المحظورات. نحن نحارب حيوانات بشرية. لن تعود غزة لما كانت عليه. سنقضي على كل شيء»)، وتصريح وزير الطاقة حينذاك والخارجية الآن بالقول : («على كل المدنيين في غزة المغادرة. لن يحصلوا على قطرة ماء او بطارية واحدة حتى يغادروا العالم»). ان تضمين هذه التصريحات في الحيثيات، حتى قبل الوصول إلى قرار نهائي، يشير إلى الاتجاه الذي تسير فيه المحكمة وقناعتها بأن مثل هذه التصريحات لا يمكن تجاهلها، بل إنها تؤشر إلى نيّة مبيتة لدى إسرائيل للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين. الأمر القانوني الهام ايضا هو أن قرارات المحكمة التي تطلب من إسرائيل الالتزام بالقانون الدولي وعدم ارتكاب افعال تحرّض على الإبادة الجماعية، صدرت بأغلبية كبيرة جدا، بما في ذلك من رئيسة المحكمة (الأمريكية)، واعضائها من دول غربية عديدة كفرنسا وأستراليا وألمانيا. ان ادعاءات حكومات هذه الدول بأن ما تقوم به إسرائيل هو دفاع عن النفس وأن تهمة الإبادة الجماعية لا أساس لها كما يقول وزير الخارجية الأمريكي، لا يؤيدها القضاة المستقلون الذين ينتمون إلى هذه الدول، مما يجعل الحجج الرسمية التي تسوقها حكومات هذه الدول للدفاع عن اسرائيل أكثر ضعفا. كما أنه من الملفت ان المحكمة لم تنعت حماس بالإرهاب، بل اكتفت بالقول انها منظمة مسلحة. اما من الناحية الأخلاقية، فان اسرائيل التي حاولت ترويج نفسها للعالم بأنها دولة ديمقراطية تحترم القانون الدولي، تقف اليوم أمام أعلى سلطة قضائية دولية ،مُتَهَمةً بأسوأ جريمة في التسلسل الهرمي للجرمية في القانون الدولي وهي جريمة الإبادة الجماعية، وستضطر لأشهر وربما لسنوات ، للوقوف في قفص الاتهام تحاول تبرير ما تقوم به قانونيا، وللإجابة عن مرافعات عدة عالية المستوى تقدمُ أدلة دامغة على انتهاكها للقانون الدولي وارتكابها قانونيا لجريمة الإبادة الجماعية. لا يمكن التقليل من أثر ذلك على الرأي العام العالمي، وحتى على حلفاء إسرائيل، وعلى صورة إسرائيل دوليا التي لن تعود لما كانت عليه سابقا حتى لدى المجتمعات التي كانت تؤيدها. لا يجب، بل لا يجوز، التقليل من أهمية ما حدث ويحدث بالرغم من خيبة الأمل المفهومة لدى الناس. ان قرارات المحكمة لا تمثل إلا بداية لطريق قد يكون طويلا، ولكنها وضعت إدانة إسرائيل على السكة الصحيحة. ولا بد من استخدام كل الوسائل المتاحة لإلزام اسرائيل بتنفيذ القرارات التي صدرت عن المحكمة، وخاصة فيما يتعلق بالمساعدات الانسانية وعدم استهداف المدنيين والتوقف عن التصريحات التحريضية للمسؤولين الاسرائيليين. كما ان اراءً عديدة صدرت عن قانونيين مرموقين تؤكد أن تنفيذ قرارات المحكمة ليس ممكنا دون توقف إسرائيل عن الحرب. لقد فتح قرار المحكمة المجال واسعا لاتخاذ العديد من الإجراءات لإجبار إسرائيل على انهاء حربها الوحشية على الشعب الفلسطيني والالتزام بقرار المحكمة. تستطيع الدول العربية والإسلامية الآن إدخال المساعدات إلى غزة دون انتظار موافقة إسرائيل، وذلك تنفيذا للإجراءات الاحترازية التي أقرتها المحكمة، وهي ملزمة للجميع. يمكن للدول العربية التي لها علاقات مع إسرائيل أن تتبنى عقوبات على إسرائيل إن هي لم تنفذ قرار المحكمة، وربما أيسرها العقوبات الاقتصادية التي تمنع أي تبادل تجاري معها. كما يجب على الدول العربية والإسلامية أن تنضم إلى القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية متهمة إياها باقتراف جريمة الإبادة الجماعية، والتي من المتوقع أن تستمر لسنوات عديدة. التوجه العام للمحكمة الدولية إيجابي، داعم للحق والعدالة في فلسطين، ومشكك في الرواية الاسرائيلية. هذا إنجاز يُبنى عليه وان كان الطريق لا يزال طويلا. لقد قامت المحكمة بدورها. ولقد قامت جنوب إفريقيا بعمل جبار لم يجرؤ عليه الكثير منا. آن الأوان أن نقوم، نحن، الآن بدورنا. "القدس العربي"
مشاركة :