تحقيق إخباري: رحلة تطور السكك الحديدية في كينيا عبر فترة تتجاوز القرن: قصة صحوة وتنمية

  • 1/30/2024
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

"من الشائع أن تُنشئ دولة ما خط سكة حديدية، إلا أنه من غير الشائع أن تُنشئ سكة حديدية دولة"، هذا ما قاله السير تشارلز إليوت، مفوض شرق أفريقيا البريطانية آنذاك، في تصريح جريء أدلى به في عام 1903. ووفقا للموقع الالكتروني لـ ((موسوعة بريتانيكا)) فإن إليوت، "الذي شرع في تطبيق سياسة تفوق البيض في محمية شرق أفريقيا البريطانية (كينيا الآن)"، كان يشير إلى خط السكة الحديدية المعياري الذي بناه المستعمرون البريطانيون في شرق أفريقيا بين عامي 1896 و1901. ونقلت السكة الحديدية، التي ترمز إلى الانتشار الواسع للحضارة الغربية، المستوطنين البيض إلى القارة الأفريقية سعيا وراء المغامرة والغزو الاستعماري وكانت شاهدا على صحوة كينيا ونضالها من أجل الاستقلال. وقال دينيس مونين، المدير التنفيذي للمركز الصيني-الأفريقي، لوكالة أنباء ((شينخوا)) في مقابلة أجريت معه مؤخرا، إن "هناك من أشاد بها (السكة الحديدية) كعنصر رئيسي في ميلاد كينيا، أو كما أطلقنا عليها ميلاد أمة، وأولئك من لديهم رأي يميل أكثر إلى أنها لعبت دورا في استعمار كينيا". وتابع مونين "نحن نحتفل الآن بمرور 60 عاما على استقلالنا. وسنواصل دوما النظر خلفنا إلى ما حدث. وسنتعافى من الجراح وندفع قدما الآن من أجل تحقيق كينيا المزيد من التنمية". -- التقسيم الأوروبي لأفريقيا عند مدخل متحف نيروبي للسكك الحديدية، يجري استعراض خط السكة الحديدية، الذي يبلغ عمره قرنا من الزمان، والذي سُمي في البداية بخط سكة حديد أوغندا على اسم وجهته النهائية، على خريطة لشرق أفريقيا. وبدأ خط السكة الحديدية، الذي تم بناؤه بين عامي 1896 و1901، في مدينة مومباسا الساحلية على ساحل المحيط الهندي وامتد إلى الشمال الغربي ليتوقف عند ميناء فلورنسا، الآن كيسومو، على ضفاف بحيرة فيكتوريا. لفهم سر إنشاء خط السكة الحديدية هذا، فمن الضروري ذكر مؤتمر برلين 1884-1885. فخلال المؤتمر، ناقشت بريطانيا وقوى غربية أخرى قواعد استعمار أفريقيا وتقسيمها، ومنها مثلا "الاحتلال الفعلي". ومن المفارقات أن هذا المؤتمر الحاسم حول مصير أفريقيا لم يحضره ممثل أفريقي واحد. وقبل أسبوع من اختتامه، علقت صحيفة ((لاغوس أوبزرفر)) بأن "العالم، ربما، لم يشهد أبدا عملية سطو على نطاق بهذا الاتساع". وذكرت ((موسوعة أفريقيا)) أنه "بعد اختتام المؤتمر، وسعت القوى الأوروبية من سيطرتها في أفريقيا بحيث بحلول عام 1900، باتت الدول الأوروبية تسيطر على ما يقرب من 90 في المائة من الأراضي الأفريقية". وأشار الزعيم الثوري الروسي فلاديمير لينين في كتابه الصادر عام 1917 بعنوان "الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية" إلى أنه "عندما تم الاستيلاء على تسعة أعشار أفريقيا (بحلول عام 1900)، وعندما تم تقسيم العالم بأسره، بات عصر احتكار حيازة المستعمرات أمرا حتمي الحدوث، وبالتالي، اشتعل صراع مكثف بشكل خاص من أجل تقسيم العالم وإعادة تقسيمه". لتشديد السيطرة على "شرق أفريقيا البريطانية"، أنشأت الحكومة البريطانية خط سكة حديدية للسيطرة على كامل حوض نهر النيل الذي ينبع من بحيرة فيكتوريا. مع ذلك، فقد أثار المشروع الكثير من الاستياء في البرلمان ووسائل الإعلام في بريطانيا، حيث تم اعتبار تكلفته المقدرة بـ5 ملايين جنيه باهظة للغاية. حتى أن السياسي البريطاني هنري لابوشير كتب قصيدة تسخر من خط السكة الحديدية بوصفه "خطا مجنونا". إلا أنه في نظر المستعمرين، كان الأمر يستحق كل هذا العناء. لم يكن بناء خط السكة الحديدية خطوة في تقسيم أفريقيا فحسب، بل كان أيضا جزءا من بناء النظام الاستعماري الإمبريالي. "أيا كانت القوة التي تهيمن على أوغندا فهي تتسيد النيل، وسيد النيل يحكم مصر، وحاكم مصر يسيطر على قناة السويس"، هذا ما كتبه تشارلز ميلر في كتابه الصادر عام 1971 بعنوان "القطار السريع المجنون: ترفيه في الإمبريالية"، والذي استمدت منه السكة الحديدية لقبها الشهير. -- "ثعبان حديدي" ملوث بالدم في نظر القبائل المحلية، كان القطار السريع المجنون "ثعبانا حديديا". وذكرت نبوءة قبلية قديمة أن الثعبان الحديدي سيعبر أرضهم يوما ما وسيكون نذير شؤم يثير المشاكل حيثما يتجه. في قاعة المعرض الرئيسية للمتحف، يعيد صف من الصور ذات الإطارات الخشبية تصوير عملية ولادة "الثعبان الحديدي": مهندسون وضباط بريطانيون يرتدون خوذات وأزياء رسمية وأحذية ركوب الخيل يقفون على سطح القاطرة، محاطين بعمال حفاة يرتدون ملابس رثة. كان بناء خط السكة الحديدية أكثر تعقيدا بكثير مما كان يتخيله البريطانيون، في حين أن التكلفة الفعلية للحيوات كانت فادحة. بدون مساعدة من الآلات، تم بناء خط السكة الحديدية الذي يبلغ طوله 931 كم من قبل عمال يحملون أدوات بسيطة. وكان لا بد من نقل الإمدادات مثل مواد البناء والمياه العذبة من أماكن أخرى. وأصبحت الأسود آكلة البشر التي تتجول في السافانا، والأمراض الاستوائية كالملاريا، وهجمات السكان المحليين الذين يقاومون غزو "الثعبان الحديدي"، جميعها حاصدة للأرواح. ووفقا للمتحف، توفي 2493 عاملا بحلول موعد الانتهاء من إنشاء خط السكة الحديدية، أو ما يقدر بأربع وفيات لكل ميل من المسار الذي تم إنشائه. وربما هذا الأمر فاجأ النبلاء البريطانيين الذين استقلوا القطارات لاحقا سعيا للمرح كما هو موضح في إعلانات خط السكة الحديدية في عشرينيات القرن العشرين والتي قدم أحدها شرق أفريقيا بوصفها "المنزل الشتوي للأرستقراطيين". بعد أن وطأت أقدامهم القارة الأفريقية، تطلع المستوطنون إلى تحويل الأراضي الخصبة الشاسعة في كينيا إلى "جنة الرجل الأبيض"، مع ممارسة التسابق بالخيول والصيد على التلال الخضراء المتموجة والغابات الوارفة. كما أنشأوا مزارع للمحاصيل النقدية مثل البن والشاي لمعالجتها وبيعها في أوروبا. تأثر الرعاة المحليون، مثل قبيلة الماساي، أكثر من غيرهم بالتوسع الاستعماري، وقُمعت مقاومتهم بوحشية. في كتابها "نقل الماساي: نكبة استعمارية"، تصف الكاتبة البريطانية لوتي هيوز كيف تم نقل الكثير من أفراد قبيلة الماساي قسرا إلى محميتين وسرقة أفضل أراضيهم. وهذا كان نفس مصير قبيلة كيكويو، وهي قبيلة بارزة أخرى في المنطقة. لقد ترك هذا الاقتصاد الاستعماري أثرا دائما على كينيا، ولا يزال الألم محسوسا. في عام 2022، رفعت مجموعة من الكينيين دعوى ضد الحكومة البريطانية في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حول سرقة الأراضي في الحقبة الاستعمارية والتعذيب وسوء المعاملة، مدعين أن القبائل المحلية من مقاطعة كيريشو قد أُجليت قسرا في أوائل القرن العشرين من أراضي أجدادهم، وهي منطقة رئيسية لزراعة الشاي تزرعها اليوم شركات كبيرة متعددة الجنسيات. وذكر محامي المجموعة جويل كيموتاي بوسك أن "حكومة المملكة المتحدة قد قامت بالتهرب والتغاضي، وتجنبت للأسف كل وسيلة ممكنة للانتصاف". وأشار غودفري سانغ، وهو مؤرخ تم توزيع أرض جده على مزارعين بيض، إلى أن "هناك دماء في الشاي". -- الحركات المناهضة للاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى، مع استقرار المزيد والمزيد من الأوروبيين في مستعمرة شرق أفريقيا، لم يتبق سوى القليل من الأراضي التي تخص السكان الأصليين. وأوضحت كارين بليكسن في كتابها الشهير "الخروج من أفريقيا"، أن "ما تقومون بسلبه من أراضي السكان الأصليين هو أكثر من مجرد أرضهم، بل ماضيهم أيضا وجذورهم وهويتهم". في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، كانت عاصفة من المقاومة تختمر بين المجتمعات المحلية التي جُردت من أراضيها. غذى استيائهم مختلف الحركات القومية الكينية، وأدى في النهاية إلى تأسيس حركة ماو ماو. اجتمعت حركة ماو ماو، وهي جماعة مقاتلة مناهضة للاستعمار تتألف أساسا من شعب كيكويو، تحت شعار "الأرض والحرية"، وسرعان ما اكتسبت دعما بين المجتمعات المحلية. باستخدام خط السكة الحديدية، تمكن القوميون من السفر من أقصى كينيا إلى أقصاها الآخر للانضمام إلى التجمعات السياسية لتشجيع الكينيين على خوض القتال من أجل الاستقلال. كما أفيد بأن الناس كانوا يستخدمون خط السكة الحديدية لنقل الأسلحة إلى أولئك الذين يقاتلون من أجل الاستقلال. وفي شهر أكتوبر عام 1952، وبسبب تمرد حركة ماو ماو، أعلنت الحكومة الاستعمارية البريطانية حالة الطوارئ، والتي كانت بمثابة بداية القمع الدموي. في عام 1956، مثّل القبض على زعيم المتمردين ديدان كيماثي هزيمة حركة ماو ماو، لكن التمرد استمر حتى أوائل ستينيات القرن العشرين. بحلول نهاية عام 1956، قُتل أكثر من 11 ألف متمرد في القتال، وفقا للموقع الالكتروني لـ ((موسوعة بريتانيكا)). في 12 ديسمبر 1963، أصبحت كينيا مستقلة تماما عن الحكم الاستعماري. واجتاحت موجة لإنهاء الاستعمار جميع أنحاء أفريقيا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، مما أدى إلى استقلال نحو 30 دولة أفريقية. -- من القطار السريع المجنون إلى قطار ماداراكا السريع لقد تحررت كينيا من أغلال الحكم الاستعماري قبل ستين عاما، لكن إرث الاقتصاد الاستعماري استمر في تقييد تنمية البلاد لعقود أخرى. اليوم، عند النظر من نوافذ قطار السكة الحديدية القديمة، يمكن للسياح الاستمتاع بالمناظر الطبيعية الجميلة والحياة البرية المتنوعة لكينيا مع ملاحظة انتشار مزارع الشاي، التي لا يزال بعضها مملوكا لشركات غربية متعددة الجنسيات. في الوقت نفسه، استحوذ تغيير ملحوظ على الانتباه -- فخط سكة حديد مومباسا-نيروبي المعياري الجديد الذي بنته الصين يمتد بشكل أساسي بالتوازي مع السكة الحديدية القديمة. وتم إطلاق خط سكة حديد مومباسا-نيروبي المعياري، والذي يطلق عليه اسم قطار ماداراكا السريع، في 31 مايو 2017، قبل يوم واحد من يوم ماداراكا، الذي يحيي ذكرى بدء الحكم الذاتي الداخلي لكينيا في الأول من يونيو 1963. وقلل القطار الجديد بشكل كبير من وقت السفر وتكاليف خدمة الشحن. وبرز كخيار مفضل للركاب، ولعب دورا محوريا في تحفيز التجارة وتمكين المدن الصغيرة على طول خط سيره. وفي متحف السكك الحديدية، يتم عرض مجسم قاطرة مصغرة من قطارات خط سكة حديد مومباسا-نيروبي المعياري، وهناك شعار على الوجه الجانبي للعربات مكتوب فيه عبارة "دول مرتبطة، شعوب مزدهرة". وذكر مونين أن "السكة الحديدية القديمة بين كينيا وأوغندا كانت أشبه بخط سكة حديد استخراجي حيث اعتاد الأسياد المستعمرون الحصول على المواد الخام من المناطق النائية وإرسالها إلى المحيط الهندي لشحنها إلى بلدانهم". وأضاف أن "خط سكة حديد مومباسا-نيروبي المعياري، والذي يمثل شراكة بين الصين وكينيا، موجه نحو التنمية. وهو يساعد كينيا على تحقيق التكامل مع دول شرق أفريقيا الأخرى. كما يساعدها على النمو من حيث توسعها الاقتصادي. ويوفر ما نسميه وسيلة نقل سريعة وفعالة للبضائع والركاب". وقد عملت السكة الحديدية الجديدة بسلاسة لأكثر من 2300 يوم، حيث قامت بنقل ملايين الركاب وأطنان من البضائع، لتساهم بشكل كبير في النمو الاجتماعي والاقتصادي في كينيا. ويكفل السائقون والفنيون والمضيفون المحليون، الذين دُربوا من قبل فنيين صينيين محترفين، التشغيل السلس للسكك الحديدية. ويجسد قطار ماداراكا السريع المثال الأبرز لتعاون الحزام والطريق بين الصين وكينيا. على مدى السنوات الماضية، ساعدت مشاريع التعاون هذه على تعزيز ربط البنية التحتية في جميع أنحاء القارة وتعزيز التجارة البينية الأفريقية. من القطار السريع المجنون إلى قطار ماداراكا السريع، يتلاشى الماضي الاستعماري الذي تمثله السكة الحديدية القديمة بشكل تدريجي. ويأخذ مستقبل مشرق توفره السكة الحديدية الجديدة في الظهور.

مشاركة :