في المجموعة القصصية "سنسكار" للقاص هاني منسي (الصادرة عن دار النسيم للنشر والتوزيع 2023) تتجاوز وتتماس عدة قضايا وجودية للواقع المعيش بالنسبة لشخصيات تدور في فلك الحيرة والالتزام/ التشتت الخلقي والديني، والمعايير الاجتماعية، وتتفاوت في غربتها مع مجتمعها الذي يقدم صورًا متعددة من الازدواجية والعبث وأحيانا اللامعقول أو الذي يدخل في نطاق الغرابة، وذلك من خلال بنى سردية تتفاوت في التزامها بتقنيات الكتابة القصصية، وربما جنحت في كثير من الأحوال إلى سمة الحكي المرسل الذي يهتم بالتفاصيل العريضة/المسيرة المتقافزة لعنصر الزمن، لصالح عنصر الحكي الذي ربما لخَّص القضية/ المشوار الإنساني، الذي تحاول القصة معالجته على نحو كبير، دون النظر – أحيانا - إلى الوقفات السردية التي ربما تحتاجها النصية القصصية، وهو ربما كان سمة من سمات التأثر بالدفقة الشعورية التي تريد الإلمام بالموقف بصورة أشمل وأعمق من حيز اللقطة أو اللحظة القصصية المتعارف عليها حديثا، إلا أنه توجد بالمجموعة نماذج تتطلع لمعانقة تلك التكنيكات السردية التي تميز الكتابة القصصية وتدفعها في سبيل الابتكار والإثارة الذهنية: حيث تمثل قصة "كرسي الاعتراف"، مدخلا جيدا للمجموعة أو ربما مفتاحا لرؤيتها، يشي باقتران الكتابة بالفكر لدى الكاتب، في قصة تخيلية عبثية يلعب فيها الرمز دورًا كبيرًا، مع إثارة لعبة التضاد بين اليمين واليسار كاتجاهات تشير إليها القصة، وتلمح من بين الأحداث العبثية: "أتمنى أن يكون من سيجلس عن يميني ذا نصيحة سديدة، وإن لم يكن سأبوح له على أية حال.." ص9 هذا الإصرار على البوح يعبر عن رغبة دفينة في التحلل من أعباء داخلية وخارجية ينوء بها السارد، ويحتاج إلى من يسامره/ يسمعه بأي شكل من أشكال الإصغاء أو بغيره، ما يغرق الحالة في تيار فلسفة الحالة/ الموقف الذي يلجأ إليه السارد: "أن تجلس إلى اليسار أو إلى اليمين.. قرارك وحدك يحدد وظيفتك خلال نصف الساعة المحتملة، الجوء إلى المقاعد يستثمر الوقت مثل قراءة الصحف اليومية، أو حل لغز الكلمات المتقاطعة، أو الهروب من المقربين المزيفين، ومحاولة فهم الحقيقة العارية". ص9 هذه الفلسفة الموجهة التي يبغي السارد أن يضع فيها نفسه نحو تفسير الحقيقة أو رؤيتها أو التماسها يجعله في تلك الحيرة والالتباس أبدا، مع ما يتحرك حوله من تبدلات وأيديولوجيات وتصرفات سواء كان عن قصد أو بغيره، دون أي تغيير ناتج عن تلك الحالة من الاشتباك مع الغير الذي يتشارك حالة وجدانية ربما تطابقت أو تماست مع السارد المتطلع لاستنطاق الحقيقة التي لا سبيل إليها. "ظل يتكلم وأنا أهز رأسي كالمتابع باهتمام، كي أتقن دور جالس اليمين"، يمثل اليمين هنا دور المرشد والمستمع المصغي الجيد، والذي يميل إلى التريث والحكمة وربما المد الديني الرشيد، إلا أن النهايات تتوحد، دلالة على الدوران في فلك حالة عبثية أثارها البوح المشترك، فضلا عن تفاصيل البوح المعتادة التي تنتهي على الحالة، كحس للمشاركة الوجدانية والمواءمة (في نهاية القصة): "بللت كتفه وكتفي دموع مشتركة، وخرج صوت مضاعف في نفس واحد: شكرا". ص14 ربما كان دافع شخصية نص العنوان "سنكسار" إلى الرهبنة، نابعا من أزمة الشخصية السابقة في الهروب أو الخلاص مما هو فيه من شجون وغوامض ربما كانت ضاغطة على وعيه وشعوره بالأزمة، فنجده في هذه الحالة الآنية التي يقدمها النص يحاول الثبات على هذه الوتيرة/ الحالة التي وصل إليها من خلال المجاهدة، ومن خلال استرجاع يقطع تلك الحالة، ليعود بعدها إلى الحالة الآنية بنفس مغاير: "بكيت لله طالبا العون على الاستمرار، وأن أنتبه جيدا للثعالب الصغيرة التي تتسلل إلى الحقل في الخفاء، رويدا رويدا إلى أن تدمره". الاسترجاع في القصة يحكي تفاصيل الرهبنة بشيء من الإيضاح والتفسير، ويستمد منه قوانينه التي يسير عليها السارد بعد كل الاسترجاع الطويل في الحالة الآنية ليصوب خطأه وربما يتطهر، حالة التطهر واضحة جدا من خلال العودة إلى العهد، وهي ربما حالة التخلص مما أشار إليه بقوله: "الثعالب الصغيرة التي تتسلل إلى الحقل"، وهي ربما كانت الخطايا التي تفسد الحياة.. القصة فيها جانب رمزي مع الارتباط العقيدي الذي يمثل جانبا من جوانب الهروب من طقوس الحياة المادية والواقع المادي المليئة بالشهوات، ربما كانت قصة وعظية مبطنة، فالأمور في نهايتها مطابقة لما أتت به عقيدة الرهبنة، مع فلسفة السارد المختلطة بالمعنى الحقيقي للوجود واللعنة الملازمة على وجه الأرض: "نظرت في الأرض وهو يحكي قصته، صمت لحظة ثم عانقته باكيا: أنا أيضا وقعت في نفس الخطية التي طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها أقوياء، أنت أخطأت واعترفت، أما أنا فلا أجرؤ على الاعتراف، جميع من تراهم داخل وخارج الدير يخطئون، لم ولن يوجد من هو بلا خطية." ص17 تلك الفلسفة التي يخرج منها السارد بوجوب التطهر دائما، من دنس تلك اللعبة المتكررة التي يلعبها مع وجوده، ومع ما يفرزه الواقع من إشكاليات ينبغي التعامل معها، ووضعها في حجمها الحقيقي الذي يتحمل النقاش والجدل كما يتحمل وجود الحقيقة الصارخة في وقتها قبل أن تتحول إلى زيف جديد: "بدأ يجفف دموعه، نظر إلى وجهي الجاثم إلى الأرض، وأنا أحملق إلى ظل يده التي تهيأ لي أنها ملاك مجنح، تحرك الملاك ببطء، ليربت على كتفي قائلا: لنرجع فورا ونعترف، قلت: "نعم، لكن دعنا نضرب قرعة أولا". ص18 يتجذر الوعي الديني هنا فارضا طقوسه وقوانينه كملمح يميني حاكم (بالرجوع والاستناد للنص السابق) على وجود الشخصية وأيديولوجيتها مع الواقع والزاوية التي تعبر من خلالها كي تنفذ إلى حقيقة وجودها، وسر هذا التشاكل المستمر مع الواقع والمجتمع المحيط الذي يبدو أثر التطهر من خلال صورة من صور التعامل معه والعيش من خلاله كنتيجة حتمية لما حل بعد معاودة الدنس، ارتباطا بسير الحياة وديمومتها في المساحات الفاصلة بين خطأ وخطأ وعقاب وعقاب ثم ثواب/ مكافأة يبدو أثرها من خلال حياة الراهبين واحتياجهما للعمل الذي تتصاعد وتيرة نجاحه وفلشله نتيجة الصراع بين الطهر والدناسة كثنائية ضدية تبرز كل منهما دور الآخرى وأثره: "في الأسبوع التالي.. زادت أعداد القلائد المباعة للسيدات، وتنوعت ألوانها وأشكالها". ثنائيات الواقع المتضادة من خلال اللعب على ثنائية الموت والحياة والمقامرة عليهما، يأتي نصا: "تذكرة غياب"، و"أم غياب" لتلح فيهما فكرة الهجرة غير الشرعية على ذهن السارد، كأزمة من أزمات الوجود والواقع لها أسبابها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الضاغطة؛ لتتحكم في سياق النص ومتنه من خلال التلويح بالأزمة الجمعية التي يعبر عنها أفراد يحملون على عاتقهم هم المغامرة والمفارقة معا فيما بين النقيضين اللذين لا ثالث لهما إلا السكون المميت أو العدم الحي، وهو ما يحدث للشخصية الإشكالية التي ربما عبر تأثيرها من نص لآخر لتكتمل فيه المأساة من عدة جوانب ولتأتي المشكلة والحل، وهي التي أطلق عليها الكاتب "أسامة كمال" حيث يقول السارد في النص الأول: "من المشي على موج سقالات المعمار إلى متن البحر الغادر، بدأوا رحلتهم بالمركب المتهالكة السالكة طريق الذهاب فقط، أملا في الوصول إلى الشواطئ الإيطالية ومحو ماضيهم الموجع، فأغلبهم ضحايا التسرب التعليمي والاجتماعي، يحلمون بالعيش في أوربا وبالمكسب السريع". ص28 بنفس التداعيات والتكنيك الحكائي المستخدم، ونفس المفارقة اللاذعة التي تطرح صورة من صور المفارقة المجتمعية، حيث تتحول إليها هذه الممارسات/ الأوهام الطائشة التي لا ترى وجها أبيض لكل ما يدور حولها، إلى فواجع وكوارث إنسانية، وتتنفس نفس الشخصية التي قررت الفرار في ثنايا النص الثاني كأمثولة، شخصية أسامة كمال كرمز للفشل والانتحار والعدمية، وكحالة تندر ودرس من خلال استرجاع ماضيها في الهرب والاستقرار بعد النجاة في الشتات من خلال النص الثاني: "عاد أسامة وليته ما عاد، طلب من أخيه أمير ثمن ربع الفدان نصيبه من الميراث، وعاد إلى وطنه..... في طريق العودة مشى فوزي من طريق أخرى، لكنه آمن متجنبا نظرات خيال المآتة". تفرض شخصية "فوزي" برمزيتها هنا حتمية الصواب والعودة في الطريق السليم من خلال توظيف النص للفزاعة/ خيال المآتة الذي جاء موفقا، ومتوافقا مع الشر النذير والخطر المحدق في حكاية (أسامة كمال) الرمز أو المثال، ولتتوازى مع شبح الغربة والعودة النموذج الخائبة.. ولعله استدراك جيد من الشخصية الضد/ فوزي الذي كان يرجو تكرار نفس الملهاة/ المأساة للشخصية النموذج أسامة كمال (الذي رمز له السارد بحرفي ok بالإنجليزية ربما بدلالة عكسية على التمام والنجاح) ليعود من خلال الطريق الطويل طريق الكفاح الآمن بلا خيبة ولا خسران، وهي القيمة الإنسانية/ العبرة التي يلتمسها النص ليقدمها في صورة وعظية تتماس أو تماثل ما حدث مع الراهب في نص "سنسكار" بوعيه الفطري وقنوات الاستشعار التي يستفيد منها المرء العائد إلى صوابه.. فضلا عن العديد من الفضاءات التي ترتادها مجموعة النصوص في سعيها لمقاربة قضايا الواقع بصورة أقرب إلى العبث والدخول في حيز اللامعقول، ثم العودة إلى الواقع برتابته وعنفوانه على حد السواء، والتي نجح الكاتب في ملامستها بمزيج من الاسترسال في الحكي، المتقاطع مع لحظات قصصية وامضة، حيث تمثل ثنائيات الواقع المتضادة هذه التيمة التي تلعب عليها غالبية نصوص المجموعة سواء في سعيها الحثيث نحو تجسيد فنية القصة القصيرة والحفاظ عليها، أو لهاثها في سبيل الحكي والاسترسال الذي ربما وصل إلى حالة التلخيص، وربما طغى على العديد من النصوص ليدخل السردية في نطاق الحكي.
مشاركة :