لا يوجد في الأوراق المتداولة، ومداخلات الوسطاء العرب والدوليين، ما يفيد في إمكان إنهاء حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة، بل إنّ إسرائيل ما زالت تبدي إصراراً على الاستمرار في الحرب، حتى أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، أعطى توجيهاته لقادة الجيش الإسرائيلي بنقل المعركة إلى رفح، التي باتت تضمّ أكثر من 60 ـ 70 في المئة من فلسطينيي غزة، الذين نزحوا إليها هرباً من الحرب، وبضغط من القوات الإسرائيلية. في مراجعة ردّ حركة "حماس"، على مسودة اتفاق الإطار المقترح من أطراف اجتماع باريس (ضمّ مسؤولي المخابرات الأميركية والمصرية والإسرائيلية إضافة إلى رئيس الوزراء القطري)، بدا واضحاً أنّ ثمة بوناً شاسعاً يفصل بين الطرفين المتصارعين. فمن جهتها، أكّدت "حماس"، في ردّها، أنّها تتوخّى من أي اتفاق وقف إطلاق نار شامل وتام، وإنهاء العدوان، وضمان الإغاثة والإيواء والإعمار ورفع الحصار عن قطاع غزة، وإنجاز عملية تبادل للأسرى، و"إعادة تمركز القوات الإسرائيلية بعيداً خارج المناطق المأهولة في كل قطاع غزة، لتكون بمحاذاة الخطّ الفاصل... وعودة النازحين إلى أماكن سكنهم في كل مناطق القطاع... تمهيداً لخروجها بالكامل". و"أن يتمّ الاتفاق على تفاصيل المرحلتين الثانية والثالثة أثناء تنفيذ المرحلة الأولى... والانتهاء من المباحثات بشأن المتطلّبات اللازمة لاستمرار وقف العمليات العسكرية المتبادلة، والعودة إلى حالة الهدوء التامّ والإعلان عنه، وذلك قبل تنفيذ المرحلة الثانية". في مقابل ذلك، فإنّ وجهة النظر الإسرائيلية لا تتحدث إلاّ عن وقف موقت لإطلاق النار (45 يوماً في المرحلة الأولى)، فقط، حتى لو استمرت التوافقات لمراحل ثلاث، وهذا ما تتوافق فيه معها الإدارة الأميركية، بدعوى عدم السماح لـ"حماس" باستعادة قواها، وعدم تكرار ما حدث في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، علماً أنّ هذا بات يشمل جبهة الشمال مع لبنان بخصوص الاتفاق على إزاحة "حزب الله" بعيداً من الحدود بمقدار 10 كلم على الأقل، بطريقة تفاوضية أو بواسطة القوة. يُستنتج مما تقدّم أنّ إسرائيل ما زالت على موقفها في شأن استمرار الحرب لتحرير الرهائن الإسرائيليين، بواسطة المفاوضات، أو بواسطة الحرب، والعمل على تقويض القوة العسكرية لحركة "حماس"، وصولاً لإخراجها من المشهد، وإعادة غزة للهيمنة الأمنية، وصولاً إلى التخفّف من جزء من الكتلة السكانية الكبيرة فيه، بدفعها خارجه، سواء بطريقة طوعية، أو قسرية، لا سيما بعد أن خلقت واقعاً في قطاع غزة يجعل من الصعب العيش فيه، بعد خراب البيوت والبنى التحتية وشبكة الطرق، وفقدان فرص العمل، والافتقاد لكل متطلبات الحياة البشرية. ولعلّ ما يجب توضيحه هنا، أنّ ثمة ضغوطاً كبيرة تُمارس على حكومة نتنياهو لدفعه نحو المضي في هذه الهدنة، ضمنها، أولاً، الضغط الداخلي، الناجم عن عائلات الرهائن المحتجزين عند "حماس"، ومن الخلافات مع المستوى العسكري، فهذا وذاك أدّيا إلى مفاقمة حال الانقسام السائدة في إسرائيل، منذ مجيء حكومة نتنياهو، سموتريتش، بن غفير (أواخر العام 2022). ثانياً، الضغط الخارجي من قِبل الدول الحليفة، لا سيما الولايات المتحدة، على إسرائيل، بسبب انكشاف استهدافها للمدنيين الفلسطينيين بطريقة وحشية، وبسبب الوضع الحرج الذي بات يسم موقفها الداعم لإسرائيل في مجتمعاتها، وأمام الرأي العام العالمي، والذي عبّرت عنه التظاهرات التي اجتاحت معظم عواصم ومدن الدول الغربية، هذا إضافة إلى موقف محكمة العدل الدولية. ثالثاً، عجز القوات الإسرائيلية عن تحرير الرهائن الإسرائيليين، أو إضعاف قوات "حماس"، التي ما زالت تقصف وتشتبك، بعد أربعة أشهر من القتال. رابعاً، يأتي ضمن تلك الضغوط أيضاً، وعود الدول الحليفة بشأن إحداث تغييرات في المشهد الفلسطيني، من ضمنها عدم السماح بعودة حركة "حماس" إلى المشهد السياسي، كسلطة في غزة، إضافة إلى استئناف مسار دمج إسرائيل في المنطقة، وهو الأمر الذي يتوق إليه نتنياهو، كي يقدّمه كمنجز سياسي له، قد يفيده بالتغطية على مسؤولية حكومته عن الإخفاق في صدّ هجوم "حماس"، في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ومحاولة تجديد حياته السياسية في الانتخابات المقبلة. إزاء هذا الوضع، تبدو "حماس" في وضع صعب، بعد كل ما جرى، فلسطينياً، لا سيما إزاء كل ما حصل في غزة، من قتل وتدمير، وهي على الصعيد العربي تبدو معزولة، والوضع أصعب بالنسبة لها على الصعيد الدولي، لذا من المتعذر على هذه الحركة رفض أية عروض، على الأرجح، تبعاً لكل ما تكبّدته، أو ما خسرته من قواها ومواردها، في هذه الحرب، منذ أربعة أشهر، وأيضاً بالقياس لما حصل في الحروب السابقة (2008، 2012، 2014، 2021)، لعدم قدرتها على فرض أية شروط، أو جني أية مكاسب، عندما كان وضعها أفضل، من ناحية مواردها وقواها وقدرتها على التحكّم بقطاع غزة. ربما المراهنة الوحيدة لحركة "حماس" في هذه الظروف والمعطيات، تكمن في تغيير الوضع القائم، من خلال تفعيل فكرة "وحدة الساحات"، التي تبينت عن خواء، أو عن وهم، حتى الآن، باستثناء مناوشات في أكثر من ساحة، لم تستطع أن تغيّر شيئاً، على مستوى حرب إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، سوى الإبقاء على ذلك الرهان، أو الوهم، عند البعض، وتعزيز صورة إيران كدولة قادرة على اللعب بأكثر من ورقة، في سعيها لفرض ذاتها كلاعب إقليمي، من دون أن تتورط مباشرة، علماً أنّ المراهنة على تفعيل "وحدة الساحات" قد يكون ثمنه باهظاً جداً، على أكثر من طرف، وهذا ما يفسّر حرص إيران على النأي بنفسها، ومعها "حزب الله"، عن أي استدراج نحو هذا الوضع.
مشاركة :