لم يتوقع الكاتب الأمريكي آندي وير، وهو يشطح بخياله، متصوراً نجاح محاولات جاك واتنى بطل روايته الأولى المريخي THE MARIAN، في زراعة البطاطا على الكوكب الأحمر، إنه يقدم خيالاً خصباً، سيتحول إلى تجربة واقعية بعد أشهر قليلة من صدور الرواية. وبينما كان أقصى طموحات وير ككاتب، يشق خطواته الأولى في عالم أدب الخيال العلمي أن تحصل الرواية على إعجاب القراء، وتصل مبيعاتها إلى ملايين النسخ، كانت المريخي تتجاوز كل نجاح متوقع، ليس فقط على مستوى الأرباح بالملايين، وعدد النسخ المباعة، كما لم تقف عند حدود تحولها إلى فيلم سينمائي ناجح، حقق أعلى إيرادات بشباك التذاكر، ولكن وصل النجاح إلى حد تبني ناسا فكرة زراعة البطاطا على المريخ، وتحويلها، إلى تجربة علمية ينتظر العالم نجاحها، ليس فقط لتأمين غذاء رواد الفضاء، ورواد الرحلات المأهولة المسافرين في طريق اللا عودة إلى المريخ، ولكن نتائجها الواعدة، ستجعلها محطة مهمة لتضييق الفجوة الغذائية، التي يعانيها العالم اليوم، باعتبار البطاطا رابع أكبر غذاء يتناوله الإنسان على الأرض بعد القمح والأرز والذرة. ومع مطلع العام الجاري بدأ فريق من علماء ناسا بالتعاون مع فريق من 9 علماء من المركز الدولي لزراعة البطاطا في ليما عاصمة البيرو، إجراء أبحاث حقلية في منطقة Arequipa في بيرو الواقعة على ارتفاع 2300 متر فوق سطح البحر، بالقرب من سفح بركان ميستي، حيث تتشابه إلى حد كبير ظروفها المناخية والبيئية والجيولوجية مع ظروف المريخ. وأشار خوليو فالديفيا سيلفا الباحث المشارك واختصاصي البيولوجيا الفلكية إلى أن المركز الدولي للبطاطا، اختار 100 نوع (من أصل 4500 مسجلة بالمركز)، لإخضاعها للمرحلة الأولى من الأبحاث، ولفت إلى أن المركز إلى جانب الأبحاث الحقلية سيعمل على نقل نحو 80 كيلوغراماً من التربة الزراعية إلى مقر المركز في ليما من منطقة لاخويا، وهي منطقة في شمال صحراء أتاكاما، وهي الأكثر جفافاً على وجه الأرض، مع أقل من مليمتر متوسط هطول الأمطار السنوي، ما يعني أنها تفتقد إلى العناصر الغذائية الأساسية، وتخلو من المواد العضوية، وهي البيئة نفسها المتوفرة على سطح الكوكب الأحمر. وقال فالديفا إن السبب في اختيار البطاطا لإجراء التجارب عليها، يرجع إلى طبيعتها الفريدة التي تجعلها أكثر النباتات قدرة على التكيف، وبالتالي هي الأكثر انتشاراً حول العالم، وتزرع بالمناطق كافة، سواء الاستوائية، أو شديدة البرد، ويضاف إلى ذلك كون البطاطا محصولاً غنياً بالزنك والحديد وفيتامين c، ويمكن للإنسان العيش على نظام غذائي من البطاطا والماء فقط لمدة تصل إلى عام. الباحث جويل رانك من المركز الدولي للبطاطا، أشار إلى اتباع الدقة العلمية التامة عند اختيار الأنواع التي تخضع للتجارب، خاصة مع ظروف الجاذبية الخاصة للمريخ، التي تصل إلى ثلث جاذبية الأرض، إضافة إلى انتشار غاز ثاني أكسيد الكربون في غلافه الجوى، مع افتقاره للنيتروجين والأكسجين، وهذا يعني أن هناك أنواعاً من البطاطا ستنمو في حجم أصغر، أو ستتلف. العالم CHRIS MCKAY من ناسا، أشار إلى أن نجاح التجربة، سيعتبر قفزة هائلة على طريق استعمار الفضاء، لكن هذا لا ينفي فوائدها الهائلة لتحسين زراعة البطاطا على الأرض، التي يمكنها حل مشكلة الجوع المتفاقمة في العالم، وقال إن نجاح العلماء في زراعة البطاطا في الظروف المناخية والبيئية القاسية، سيوفر فرصاً للحفاظ على 842 مليون شخص في العالم تضرروا من المجاعات، وعانوا سوء التغذية والفقر. أهمية خاصة تكتسب تجربة زراعة البطاطا على المريخ أهميتها الخاصة بعد تسارع السباق لإرسال البشر إلى المريخ، والذي لم يعد مجرد أحلام وخطط على الورق، بل تحول إلى واقع وحقيقة، فإيلون ماسك صاحب ومدير شركة سبيس اكس Space x لرحلات الفضاء، التي تنفذ حالياً مهام النقل التجاري للمحطة الفضائية الدولية لمصلحة ناسا، أكد أن بإمكان شركته إرسال أولى الرحلات المأهولة بحلول عام 2026، مشيراً إلى أن طاقم سفينة مارس وان سيهبط على سطح المريخ بعد ذلك بعام واحد، في عام 2027. كما تخطط ناسا لحمل البشر إلى مدار حول المريخ في عام 2033، وإلى سطحه بحلول 2039، وتجهز وكالة الفضاء الأوروبية لمهمة مشابهة بحلول عام 2033، بينما يخطط القائمون على برنامج الفضاء الصيني لإرسال بشر إلى سطح الكوكب الأحمر، بين عامي 2040 و2060، وبالتالي يعد البحث عن توفير الغذاء المناسب لهذه الرحلات جزءاً لا يتجزأ من خطوات الإعداد لها، والتخطيط لنجاحها. وقبل سنوات وضعت ناسا تصوراً كاملاً لكيفية استعمار المريخ، وضمان نجاح الرحلات المأهولة التي ستسافر في اتجاه واحد، وهنا توقعت ناسا 3 أنظمة تضمن البقاء على قيد الحياة. اثنان منها مبنيان على أنظمة تنقية وتحول كيميائي، كتلك المستخدمة في المكوكات الفضائية، والثالث يستخدم النباتات المزروعة محلياً، لإنتاج الماء والأكسجين لرواد الفضاء. ولناسا عدة مشروعات علمية كبرى للتحقق من وسائل النجاة على الكوكب الأحمر، أهمها مشروع الغلاف الحيوي 2، في ولاية أريزونا، ويختبر كيفية إعادة تزويد المستعمرة الفضائية بالأكسجين، وهناك محطات بحثية في بيئات قاسية، أهمها قاعدة محطة أمندسن سكوت في القارة القطبية الجنوبية، ومحطة البحث عن ضوء المريخ Flashline Mars Arctic Reserchh Station، بجزيرة ديفون في القطب الشمالي، وتبقى محطة أبحاث صحراء المريخ في صحراء ولاية يوتا الأهم، إذ تتشابه بها الظروف البيئية والمناخية إلى حد كبير مع المريخ. وتعد درجة نجاح زراعة المحاصيل في الفضاء المفتاح الحيوي لبقاء الجنس البشري في المستقبل عند استعمار الفضاء، وأياً كان شكل المزارع الفضائية في المستقبل، فإنها سوف تكون جزءاً لا يتجزأ من برامج استكشاف الفضاء، التي ستصبح بلا قيمة بدون توافر مصدر للغذاء المتجدد كالذي تقدمه المزارع الفضائية، واليوم يحتدم السباق بين الشركات الحكومية والخاصة لتطوير تقنيات لزراعة المحاصيل الغذائية على المحطات الفضائية وسفن الفضاء، وحتى المريخ، وتتجاوز أهمية تطوير التقنيات الزراعية مجرد استنبات محاصيل على السفن الفضائية، أو الكواكب إلى خلق بيئة دائمة للنباتات، يمكن فيها إعادة تدوير مياه الصرف الصحي والمخلفات البشرية وتنقية الهواء، على متن سفينة الفضاء، وهذا يؤدي في الأساس إلى تحويل سفينة الفضاء إلى نظام بيئي صناعي به دورة هيدرولوجية، إلى جانب إعادة تدوير المواد الغذائية. و التجارب الحديثة على البطاطا، لم تكن الأولى من نوعها، فقبل سنوات أجرى فريق علمي من مركز جونسون الفضائي تجارب على أول نموذج للحاويات الفضائية زرعت بداخله نباتات بدلاً من خزانات الأكسجين التي يحملها رواد للفضاء، وتدعيماً لهذه الجهود العلمية، أجرت ناسا تجارب لإحلال النباتات مكان خزانات الأكسجين في الرحلات الفضائية المأهولة، فوضعت نباتات البطاطا في خزانات مغلقة تماماً ومضاءة صناعياً ولمدة تزيد على العام، لدراسة كمية الأكسجين المنتج بهذه الطريقة، وتبين إمكانية الحصول على أكثر من احتياجات رواد الفضاء من الأكسجين خلال رحلتهم مع توفير الغذاء، على أن يتم الري بطريقة ترشيح المياه المستخدمة في الرحلة، بعد أن تنقى، ويعاد استخدامها. ومنذ عامين يجري المركز الألماني للطيران والرحلات الفضائية، اختبارات على نظم بيولوجية ذاتية تستعمل فيها الطحالب، لأنها تتمكن من تحويل الزفير إلى أكسجين، ولن يقتصر غذاء رواد الفضاء على الطحالب فقط، فالطماطم وبعض الأنواع الأخرى من الخضر، يمكن أن تنمو في أنابيب زجاجية مملوءة بالحمم المبردة، التي تساعد النباتات على مد جذورها، إضافة إلى وظيفتها كسماد، أما أكثر التجارب جموحاً، فتلك التي يختبر فيها المركز إمكانية اصطحاب أسماك إلى الفضاء، وجعلها جزءاً من الدورة الحيوية هناك. زينيا أول زهرة في الفضاء منتصف العام الماضي نجح رائد الفضاء سكوت كيلي، في استنبات زهرة زينيا بعد عدة محاولات فاشلة سابقة، بسبب ارتفاع نسبة الرطوبة، وقلة تدفق الهواء، وتسريب أحواض النباتات للمياه، ومن ثم إصابة الزهرة بالعفن. وبعد عدة محاولات توصل كيلي إلى الطريقة المثلى لسقيا الزهرة بالمياه، اعتماداً على حاجتها للمياه، وليس على الجدول الذي سبق وقرره علماء ناسا بالمحطة الأرضية، قائلاً إذا كنا سنذهب إلى المريخ، ونزرع النباتات، فسنكون مسؤولين عن متى تحتاج إلى الماء، وبالرغم من أن بعض النباتات ذبلت وماتت في النهاية، إلا أنه نجح في رعاية واحدة على الأقل حتى أزهرت. وتجدر الإشارة إلى أن اختيارزينيا لتجربة زراعتها في الفضاء، يرجع إلى دورة نموها الأطول من الخس الأحمر، الذي نجحت زراعته مؤخراً، ما يجعل منها منطلقاً مهماً نحو زراعة الطماطم. المريخي سيناريوالنجاة من الكوكب الأحمر بدأ آندي وير كتابة أولى رواياته المريخي 2009، وانهمك مدة عامين في تجميع المواد المعرفية ذات الصلة بالقصة، حتى تبدو واقعية، واحتاج وير إلى القراءة المتعمقة عن علوم الفلك، وميكانيكا المدار، وتاريخ المركبات الفضائية المأهولة حتى أنجز روايته، التي لم تحظ وقتها بقبول أي دار نشر، ما دفعه إلى نشرها مسلسلة عبر موقعه الشخصي على الإنترنت، وبعد تحقيقها نجاحاً كبيراً، تهافتت عليها دور النشر، لتحقق أعلى المبيعات بعد نشرها في كتاب، وتواصل حصد النجاح بعد تحولها إلى فيلم سينمائي بالعنوان نفسه، من إخراج ريدلي سكوت، وبطولة مات ديمون، وجيسكا شاستين، وتحكي الرواية قصة نجاح رائد الفضاء جاك واتني في البقاء حياً على المريخ بعد اضطرار البعثة ARES3 إلى مغادرة المريخ، بسبب عاصفة رملية قوية، هددت سلامة الرحلة، وبعد اعتقادهم بوفاة واتني بسبب القراءات المغلوطة، التي قدمتها بزته الفضائية عن معدلات الهواء ورسم القلب، بسبب اختراق شظايا من طبق الاتصالات، وفق حاسوب المراقبة الحيوية الخاصة به. وللبقاء على قيد الحياة، استغل واتني خلفيته الأكاديمية في علم النبات لزراعة البطاطا، وكمهندس ميكانيكي لإصلاح مركبة فضائية تنقله إلى نقطة التقائه بالسفينة الفضائية العائدة لإنقاذه. لادا أول مزرعة فضائية إذا كانت زراعة البطاطا، أحد أحدث الأحلام العلمية لناسا، إلا أنها ليست المحاولة الأولى لتوفير غذاء طازج لرواد الفضاء، فقد سبقها محاولات أخرى جادة، كان أنجحها، زراعة الخس الأحمر على المحطة الفضائية الدولية. والمزرعة الفضائية الوحيدة المتواجدة حالياً على متن المحطة الفضائية الدولية، تسمى لادا، أو وحدة إنتاج الخضروات في بي يو، وقد بدأت العمل في 2002، وزرع الخس الأحمر على متنها، وقد احتاج نموه نحو 15 شهراً، باستعمال نظام متقدم يسمى فيج 01، والمخصص للزراعة في الأماكن الضيقة، بالاعتماد على أضواء LED حمراء وزرقاء وخضراء اللون. ومنتصف العام الماضي تابع العالم رائد الفضاء سكوت كيلي، وهو يتناول أول طبق خس زرع في الفضاء. أما عن المحاصيل التي يمكن زراعتها على متن المركبات الفضائية، ويناسبها أجواء الجاذبية الصغرى، فأهمها الفراولة التي تحتاج قدراً أقل من الضوء، والسبانخ التي لا تحتاج إلى قدر كبير من العناية، والبطاطا الحلوة التي تمثل محصولاً مثالياً لغناها بالطاقة، إضافة إلى فول الصويا.
مشاركة :