يقدم الكاتب الروائي المصري سعد القرش في احدث كتبه "في مديح الكتابة"، الصادر عن مكتبة ودار نشر غاف بالإمارات العربية المتحدة 2023، قراءة مختلفة لأربعين كتابًا وكتاب؛ قراءة ارقى في أحد جوانبها لمستوى تحقيق النصوص، وترقى في معظمها لمستوى الدراسات العلمية العليا المصغرة، محكومة بمنهج عنوانه الموضوعية، وآداته ضمير الكاتب ووعيه وقلمه الذي سرعان ما يتحول - مع كتابات أخرى تستفزه - إلى سيف بتار لا يخشى في النقد لومة لائم، خاصة مع كتب وكُتاب ما زال أصحابها أحياء يرزقون، ومنهم الدكتور مصطفى الفقى مستشار المعلومات للرئيس الراحل حسني مبارك. الصنعة الروائية تغلب على المؤلف سواء في قراءاته أو اختياراته للكتب والروايات التي تناولها في كتابه، إذ يبحر فيها بروح محب غيور على الكتابة، لا يركن لقبلة يرضاها قارئ متعجل، بل يولي وجهه شطر كتابات بعضها مثير للجدل يطرح الاسئلة أكثر ما يقدم إجابات، لا يقول شيئًا من حيث أراد قول كل شيئ، فيلتقط القرش من الشرق والغرب، الماضي والحاضر العرب والغرب، خيوطًا تعكس سحر الكتابة وصناعة الدهشة، لدى صناعها الأصليون المسكونين بالقلق، فلا يتعالون على القارئ ولا يتقعرون، لهذا الكتاب هو انتصار لحقيقة النور أكثر مما هو تتبع لنور الحقيقة، وهو احتفاء بكتابات أطول عمرًا من أصحابها، كتابات لم تراهن على سلطة أو سلطان، ولم تطمع في جائزة أو انتصار فقاعي مؤقت، بل تراهن على الزمن والقارئ وحده لا شريك له، وهو الرهان الذي لا يعرف الهوى ولا يسقط في أوحال المجاملات. ولان التاريخ لا يرحم، قالها الرئيس المصري الراحل حسني مبارك في خطبة وداعية عاطفية: "وسيحكم التاريخ بما لنا أو علينا"، وقالتها هذه الكتب المنتقاة بعناية فائقة وعين فاحصة، وحكم لها التاريخ بالبقاء والخلود، وكتب لها القراء ولا زالوا يكتبون شهادات ميلاد تتجدد تلقائيًا عبر الزمن، من جيل إلى جيل، لتدل على أصحابها أحياءً وأمواتًا. فاصل من النفاق! علاقة المؤرخ الرسمي بالحاكم مفهومة، وظيفة تقتضي السمع والطاعة، وتسجيل الوقائع كما يريد الحاكم، لا كما جرت، هكذا قدّم عبد اللطيف البغدادي (1162 ـ 1231 ميلادي) شهادته في مصنّفه "كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر".، وكان يتعجل عرضها على السلطان صلاح الدين الأيوبي:"صاحب الأمر وإمام العصر، إمام الأنام ومفترض الطاعة بموجب شريعة الإسلام، خليفة الله في أرضه ومنتهى مقرّ وحيه، والقيم على العالم بإمضاء أمر الله تعالى فيهم ونهيه، سيدنا ومولانا الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين ذي المواقف المقدسة النبوية الطاهرة الزكية الممجدة المعظمة الإمامية الباهرة أنوارها، الزاهرة آلاؤها نهارا وليلا". هل كان في سلوك الملك الأيوبي، من الإجرام أو القدسية، سبب يدعو الكاتب إلى مبالغات تنزله منزلة فوق بشرية، وتمنحه صفات لا تجتمع إلا لنبي رسول؟ والحقيقة ليس كل المؤرخين مثل البغدادي؛ فالمؤرخ المصري تقي الدين أحمد بن علي المقريزي استثناء دال، إذ يكتسب كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" أهمية خاصة؛ لأنه يوثق ما مرّ بمصر من كوارث عاصر إحداها، بحلول وباء ومجاعة استمرت من سنة 796 إلى 808 هجرية، وقد ربط آثارها ومنها جشع التجار وتردي أحوال المعيشة، بأسبابها الاقتصادية والسياسية، وأرجعها إلى "غباوة أهل الدولة"، وانهماكهم في الملذات، فضلًا عن سوء الإدارة؛ لأن «ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام، وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد». "إغاثة الأمة بكشف الغمة" نشرته لجنة التأليف والترجمة النشر برئاسة أحمد أمين، للمرة الأولى عام 1940. يتناول تاريخ المجاعات بمصر، منذ أقدم العصور حتى سنة 808 هجرية حين ألف هذا الكتاب وكان يكتب التاريخ من أسفل، كما عاشه أبطاله الحقيقيون، يصف المقريزي مظاهر الشدة المستنصرية باختفاء القوت، "وأُكلَت الكلاب والقطط حتى قلّت الكلاب، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير. وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا، وتحرّز الناس، فكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعهم سَلَب وحبال فيها كلاليب، فإذا مرّ بهم أحد ألقوها عليه ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه. وديعة الكواكبي العابرة للأجيال يقف سعد القرش مع كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لمؤلفه عبد الرحمن الكواكبي، الذي لخص فيه أسباب الانحطاط بكلمتين: "الاستبداد السياسي". بدأ الكواكبي فصول كتابه بالدين، واستند إلى اتفاق أغلب الباحثين في تاريخ الأديان على أن الاستبداد السياسي ثمرة الاستبداد الديني، وفي رأي الكواكبي أن المستبد "فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجدين"، وأن الاستبداد ليس قدرا، ويمكن الخلاص منه بوسائل دستورية وقانونية تتعلق بالفصل بين السلطات، وتحدد الحقوق العمومية والشخصية، ونوعية الحكومة ومهامها، ووسائل مراقبة أدائها، كل ذلك بعيدا عن الرهان على تدين الحاكم ووعده وعهده "ويمينه على مراعاة الدين، والتقوى، والحق، والشرف، والعدالة، ومقتضيات المصلحة العامة، وأمثال ذلك من القضايا الكلية المبهمة التي تدور على لسان كل بر وفاجر، وما هي في الحقيقة إلا كلام مبهم فارغ، لأن المجرم لا يعدم تأويلا، ولأن من طبيعة القوة الاعتساف، ولأن القوة لا تقابل إلا بالقوة". العفريت في شوارع القاهرة! في كتاب "ترام القاهرة" يثبّت مؤلفه محمد سيد كيلاني اللحظة القاهرية قبل دخول الترام حيث التنقل بالحمير والخيل في طرق غير ممهدة، وفي العاشرة من صباح أول أغسطس 1896 أجريت "حفلة تجريبية" لتسيير الترام، واصطف الآلاف على الجانبين لمشاهدة أول مركبة تسير في العاصمة بقوة الكهرباء، وركض المئات من الأولاد وراءها، وهم يصرخون "العفريت، العفريت". أما كتاب "سيرة النبي محمد" باكورة إصدارات دار "سطور" بالقاهرة عام 1998، وترجمه محمد عناني وفاطمة نصر، عن طبعة نيويورك 1992، فتروي مؤلفته كارين أرمسترونج، التي كانت تؤمن بالكاثوليكية وتخلت عنها: أنه من المفارقات التي تسجلها الكاتبة، أنه في حين "انقضّ المسيحيون على المسلمين يذبحونهم في الشرق الأدنى"، كان آخرون في إسبانيا يجلسون لتلقي العلوم "عند أقدام علماء المسلمين"، وجرى التعاون في مشروع ترجمة "جبار لنقل معارف العالم الإسلامي إلى الغرب"، وحظي ابن سينا وابن رشد بالتبجيل. وهذا انفصام في النفس الغربية التي "ترى في الإسلام صورة لكل ما لا تستطيع هضمه في ذاتها". ودفعها الفضول والشغف والتعطّش إلى معرفة المزيد، فاهتدت إلى القرآن وإلى سيرة النبي، ولم تعد تؤمن بالمسيحية، أو تنتمي "رسميا لأي دين آخر، ولكنني عكفت على مراجعة أفكاري عن الإسلام"، وراجعتْ التجربة الدينية في عمومها، وتوصلت إلى أن النبي محمدا أسهم في "التجربة الروحية للإنسانية"، وأنه من الإنصاف الإقرار بهذه الحقيقة، وهذا ما دعاني إلى تأليف هذا الكتاب. وتقرّ بأن "الكراهية القديمة للإسلام تواصل ازدهارها على جانبي المحيط الأطلسي، ولم يعد يمنع الناس أي وازع عن مهاجمة ذلك الدين، حتى ولو كانوا لا يعرفون عنه إلا أقل القليل". إبليس أو الشيطان! لم يكن عباس محمود العقاد الوحيد الذ ألف كتابً بعنوان "إبليس" في خمسينات القرن العشرين، تبعه آخرون ففي كتاب "شعرية إبليس.. اللاهوت السردي في القرآن"، لمؤلفة ويتني س. بودمان، ترجمة د. رفعت السيد علي من منشورات الجمل في بيروت وبغداد، يرصد المؤلف قصة إبليس الواردة في سبع سور قرآنية، وتبدأ بإبلاغ الله للملائكة بخلق بشر من طين، فتخشى أن يفسد البشر في الأرض، ويطمئنهم الله، وينفخ من روحه في آدم، ويأمر الملائكة بالسجود له، فتستجيب إلا إبليس فيطرده الله، وقبل أن يغادر مملكة السماء يرجو الله أن يمهله إلى يوم القيامة، ويهدد بإضلال البشر عن الصراط المستقيم. وبكثير من التأمل، يتوقف بودمان أمام ثنائية إبليس والشيطان، فالأول "شخصية شديدة التعقيد... لا يشير القرآن إلى إبليس على أنه ممثل للشر.. على الإطلاق"، أما الشيطان فلم يصوره نص سماوي أو أرضي بأي قدر من التعاطف، وهو خصم البشر وعدوهم، "ولكنه لم يكن أبدا في القرآن مصدر قصة مثل قصة إبليس". ولا يوجد مصدر يفكّ التباس العلاقة بين إبليس والشيطان، ويجد بودمان حلا بالقول إن إبليس حينما طرد من الجنة، "أصبح بطريقة ما الشيطان". "اليهود واليهودية والصهيونية" احتاجت موسوعة الدكتور عبد الوهاب محمد المسيري "اليهود واليهودية والصهيونية"، بمجلداتها الثمانية التي صدرت دفعة واحدة، إلى ربع القرن لكي ترى النور. وقد ظلت ثمرة منتظرة، تخايل القارئ العام والمتخصص، ولا يغني عنها كتاب يعالج فيه المؤلف قضية فكرية ذات صلة بالصهيونية، ثم كتاب عن حراك ميداني ذي بعد دولي مثل هجرة اليهود السوفييت إلى الكيان الصهيوني عام 1990. كان الفريق المشارك في الموسوعة يعمل بدقة وأناة، ثم فسر المسيري في مقدمة المجلد الأول أن "الموسوعة لم تكتب وإنما نمت من خلال الكتابة"، بل إن كل مواد الموسوعة كتبت "ما لا يقل عن عشرين مرة"، وقد خضعت إعادة كتابة المواد أو المداخل لتطور النموذج التحليلي الذي يكاد ينطلق من رفض الخطاب التحليلي للظاهرة الصهيونية. ينضم المسيري الذي قال في نهاية مقدمة موسوعته :إن الكتاب يطمح إلى أن يتحول إدراك الأيديولوجية الصهيونية "إلى نضال من أجل ما نتصور أنه الحقيقة والعدل"، ينضم إلى سلالة المفكرين العرب البارزين من عبد الرحمن بن خلدون إلى جواد علي وجمال حمدان. عروبة فلسطين والقدس يقدم القرش قراءة في كتاب "عروبة فلسطين والقدس في التاريخ القديم" للدكتور محمد خليفة حسن، أستاذ الدراسات اليهودية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، مؤكدًا أن المؤلف وضعنا أمام قضايا غائبة أو مغيّبة، منها أن المؤرخين اليهود الصهاينة المسيطرين على مجال كتابة تاريخ الشرق الأدنى القديم أخرجوا "تاريخ الشعب الفلسطيني القديم من دائرة البحث"، واستبدلوا به تاريخ العبريين؛ للإيهام بوجود تاريخ يهودي في فلسطين، حتى أن تاريخ بلاد الشام في هذه الدراسات يعالج تاريخ فلسطين تحت مسمى "تاريخ العبريين" أو "تاريخ الإسرائيليين". أما كتاب "إرهاب إسرائيل المقدس" مذكرات موشي شاريت (1894 ـ 1965) أول وزير خارجية لإسرائيل، وثاني رئيس لوزرائها بين عامي 1953 و1955، بين فترتيْ رئاسة ديفيد بن جوريون لوزراء الكيان الصهيوني، ففيه تقول الكاتبة الإسرائيلية ليڤيا روكاش: إن اليوميات تثبت أن الخطر العربي "أسطورة اخترعتها إسرائيل لأسباب داخلية، لديها وداخل الدول العربية، ولم تستطع النظم العربية إنكارها، تماما، رغم أنها كانت على الدوام في خوف من استعدادات إسرائيل لحرب جديدة". وترى اليوميات «مدمرة للدعاية الصهيونية»، وتنقل منها قيام بن جوريون، عام 1954، "بتطوير الخطة الجهنمية" لإشعال صراع طائفي في لبنان، عن طريق تحويل "لبنان إلى المسيحية". وتضمّن تطوير الخطة خطوات تفصيلية «لتقسيم وإخضاع هذه الدولة لإسرائيل". وتأمّل شاريت "السلسلة الطويلة من الأحداث الزائفة والحروب التي اخترعناها"، ورفْض أي تسويات أمنية للحدود، تقدمها الدول العربية أو الأمم المتحدة؛ لأن دايان رأى أنها "تقيّد يد إسرائيل". 1918 ..عام الوباء يسجل الدكتور محمد أبو الغار الأستاذ بكلية الطب قصر العيني بالقاهرة في كتابه عن الإنفلونزا الإسبانية التي اجتاحت العالم عام 1918، كيف أهملها المؤرخون المصريون المرموقون، باستثناء سطر في حوليات المؤرخ والمحقق أحمد شفيق باشا، أما الخيط الذي أثمر كتاب "الوباء الذي قتل 180 ألف مصري" لأبو الغار فقد بدأ في ظل شبح فيروس كورونا، ببحثه في تاريخ الأوبئة، وكيفية انتشارها عالميا، وسبل تفاديها. في يناير 2020 قرأ بحثا صغيرا كتبه الدكتور كريستوفر روز الأستاذ بجامعة تكساس، عن تأثير الإنفلونزا الإسبانية على مصر في نهاية الحرب العالمية الأولى، وفيه رصد لعشرات الآلاف من الضحايا، وربط انتشار الآثار المميتة للفيروس بالغلاء، وكيف أدى الفقر إلى سوء التغذية، وضعف المناعة، مع رجوع فيلق العمال المصريين المسخّرين في خدمة جيش الاحتلال البريطاني، من خارج الحدود إلى عموم القرى مصابين بالإنفلونزا. من تلك الإضاءة جاء الربط بين كوفيد 19 وإنفلونزا 1918. ممن أصيبوا بالإنفلونزا وتم شفاؤهم والت ديزني، والرئيس الأمريكي ويلسون، وفرانكلين روزفلت الذي صار رئيسا لأمريكا، ورئيس الوزراء البريطاني لويد جورج، والزعيم الهندي غاندي، وملكة الدنمارك وملك إسبانيا، وإمبراطور إثيوبيا هيلا سلاسي، والرسام النرويجي إدوارد مونك. وكان أشهر الضحايا الرسام النمساوي جوستاف كليمت، والرسام النمساوي إيجون شيلي وزوجته الحامل في شهرها السادس، والاقتصادي الألماني ماكس فيبر، واثنين لا تزال آثارهما سارية هما الأمريكي جون دودج صانع سيارات دودج، والبريطاني مارك سايكس أحد طرفي الاتفاقية التي تحمل اسمه مع الفرنسي فرانسوا جورج بيكو. "المعلّقات لجيل الألفية" .. أشهر عشر قصائد قبل الإسلام أصدر مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) بالتعاون مع مجلة "القافلة" الصادرة عن أرامكو السعودية كتاب "المعلّقات لجيل الألفية" في مجلد بالعربية والإنجليزية، (489 صفحة)، يضم المعلقات العشر لامرئ القيس، وطَرَفة بن العبد، وزهير بن أبي سُلمى، ولبِيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد، والحارث بن حِلّزة، والأعشى القيسي، والنابغة الذبياني، وعَبيد بن الأبرص. جاء في مقدمة عنوانها "المعلقات في حضورها الدائم" إن المعلقات العشر خالدات، تعبر زمانها إلينا، "تشكّل قاموسا للغة العربية ودستورا للنحاة، ومصدرا لمتعة لا تنتهي لأولئك المفتونين ببلاغة الفن اللفظي الرفيع... وثيقة للمؤرخين وعلماء الاجتماع، ودليلا للجغرافيين". هذا الكتاب بحق يعيد المعلّقات إلى واجهة الإبداع الشعري، ويرسّخ مقولة "الشعر ديوان العرب"، باعتباره ذخيرة لغوية تمثل سجلا حيويا، للحروب والعادات والمعاملات الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والعاطفية والصراع العشائري والتفاوت الطبقي والتمرد. هذه النصوص التي أنتجت قبل أكثر من خمسة عشر قرنا لا تزال نابضة بالحياة، بفضل الغنى الكامن في اللغة، وطاقة الألفاظ على التجدد وحفظ المدلولات. طه حسين شاعرًا! لعميد الأدب العربي د.طه حسين وجها آخر ، ففي كتاب "طه حسين الشاعر الكاتب" الذي نشر عام 1963 يقول مؤلفه محمد سيد كيلاني إن طه حسين الذي ولد عام 1889 بدأ حياته الأدبية شاعرا، إذ رثى أخاه الذي توفي في وباء الكوليرا عام 1902، وكتب في سيرته "الأيام" أنه كان يختم كل قصيدة "بالصلاة على النبي، واهبا ثواب هذه الصلاة إلى أخيه"، ولم يدون ذلك الشعر الذي رافقه في رحلته من محافظة المنيا إلى القاهرة. وقد أورد محمد قابيل اسم طه حسين في "موسوعة الغناء في مصر" عام 2006، وسجل أن لعميد الأدب العربي تجربة وحيدة في كتابة أغنية عنوانها "لولاك"، ولحنها كامل الخلعي وغنتها سلطانة الطرب منيرة المهدية في إحدى مسرحياتها. ولم يذكر اسم المسرحية أو تاريخ عرضها، وإن أورد نص الأغنية، وهي بالعامية المصرية، وسجلها الخلعي بصوته، بعد ذلك، على أسطوانة أنتجتها شركة "فونوغراف"، ويقول مطلعها: أنا لولاك.. كنت ملاك.. غير مسموح.. أهوى سواك.. سامحني "في الشعر الجاهلي" تمرد طه حسين على تراث النقد، وانطلق من التمرد إلى ثورة غيرت مجرى الدراسات الأدبية والتاريخية بكتابه "في الشعر الجاهلي"، لم يكن كتابا عابرا، بل رصاصة صوبت بدقة وأصابت الهدف، وتجاوزت ارتدادات الزلزال وتوابعه حدود مصر إلى العالم العربي، وانتقلت من فضاءات النقد الأدبي إلى صراعات السياسة. وبنشر الكتاب أرسى عميد الأدب العربي منهج الشك في نقد النصوص الدينية والأدبية، وفتح أفقا غير محدود أمام قراءة جديدة للنصوص وللحياة قبل الإسلام. في السطر الأول من التمهيد يقول: "هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقا آخر سيزورون عنه ازورارا، ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث، أو بعبارة أصح أريد أن أقيده، فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة. وليس سرا ما تتحدث به إلى مائتين". "الإسلام وأصول الحكم" لا حصر للكتب التي صدرت منذ عام 1925 للهجوم على كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، والطعن في عقيدة مؤلفه الشيخ علي عبد الرازق، ومعظمها سقط من الذاكرة لانتهاء دوره، وبقي الكتاب صامدا لاختبار الزمن، يتجدد شبابه، ويستعاد بكامل حيويته الفكرية، وصار دالا على مؤلفه، بل جانيا عليه؛ بحجبه الإشادة وربما الإشارة إلى كتبه الأخرى. كتب الشيخ علي عبد الرازق لكتابه مقدمة قصيرة جدا في أول أبريل 1925، بدأها بالشهادة "أن لا إله إلا الله، ولا أعبد إلا إياه، ولا أخشى أحدا سواه"، وجاء كتابه "ثمرة عمل بذلت له أقصى ما أملك من جهد، وأنفقت فيه سنين كثيرة". وينقسم عمله إلى ثلاثة كتب فرعية أولها الخلافة والإسلام في ثلاثة أبواب: "الخلافة وطبيعتها" و"حكم الخلافة" و"الخلافة من الوجهة الاجتماعية". والكتاب الثاني الحكومة والإسلام وينقسم إلى ثلاثة أبواب: "نظام الحكم في عصر النبوة" و"الرسالة والحكم" و"رسالة لا حكم ـ ودين لا دولة". والكتاب الثالث الخلافة والحكومة في التاريخ ويضم أيضا ثلاثة أبواب: "الوحدة الدينية والعرب" و"الدولة العربية" و"الخلافة الإسلامية". كان الكتاب عنوانا لمعركة سياسية، وقد دافع عباس العقاد عن الكتاب، في صحيفة "البلاغ"، مستنكرا تعرض المؤلف للمحاكمة، "فهذا ليس من روح الحرية التي تحمينا جميعا، وليس من روح الدين الذي يغارون عليه ويشنون الغارة باسمه... نود أن يعلم الذين لا يعلمون، أنه قد مضى الزمان الذي يتصدى فيه جماعة من الناس، بأي صفة من الصفات، لإكراه الأفكار على النزول عند رأيها". "أولاد حارتنا" حتى يوم إعلان فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل (13 أكتوبر 1988)، لم يتوقع نجيب محفوظ أن تصيبه رواية "أولاد حارتنا" بما يشبه اللعنة، فهي الوحيدة التي منع نشرها في كتاب داخل مصر، ثم كادت تنهي حياته بطعنة سكين في رقبته يوم 14 أكتوبر/تشرين الاول 1994 بيد شاب متطرف لم يقرأها. لم يتاجر محفوظ بمنع الرواية، بل راهن على الزمن، وكسب الرهان. ولم تصدر الرواية في كتاب داخل مصر، وتوالى وصول نسخها من بيروت. وعن خيمة القذافي وخباياه يقول سعد القرش من حسن حظ القارئ أن الكاتب اللبناني غسان شربل مؤلف كتاب "في خيمة القذافي.. رفاق العقيد يكشفون خبايا عهده" لم يتدخل، بل سجل بأسلوب رشيق روايات شهود أدان بعضهم بعضا، حتى هذه لم يتوقف أمامها المؤلف الذي أعلن في مقدمة الكتاب أنه كان يبحث "عن شهود لا عن محللين"، وكأن ذلك الضابط الصغير، برتبة نقيب عام 1969، كان ساحرا في بلد طيب لا يعرف السحرة، فاستخف شعبا اشترى بالصمت ما ظنه حياة، مكتفيا بما يشبه الحياة، بعيدا عن جدار حجب الليبيين، ولم يتسع إلا لصور ضخمة للقائد التاريخي الذي «لا يخطئ. لا يشيخ. ومن صلاحياته التلاعب بالفصول وتغيير مسارات الأنهار، وطرد التجاعيد الوافدة إلى وجهه»، ولم يكن مدهشا أن يتوسل إلى قاتله، وهو يتحسس الدماء: أنا القائد. مبارك ورجاله وبن علي والقذافي والأسد وأتباعهم وآخرين تنقصهم مواهب ومسوّغات ونستون تشرشل القائل: "التاريخ سيرأف بي؛ لأنني سأكتبه"!. "ظلال شجرة الرمان" رواية "ظلال شجرة الرمان"، لمؤلفها طارق علي جدارية روائية، تراجيديا يساق أبطالها إلى مصائرهم أو حتفهم، الإنجاز الفكري لطارق علي حجب الرؤية عن قيمته الروائية، وتكفي "ظلال شجرة الرمان"، إحدى كلاسكيات الأدب، لتضعه وسط الروائيين العظام. يذهب سعد القرش إلى أن رواية إرنست هيمنغواي (1899 ـ 1961) "أن تملك وألا تملك" واحدة من أروع كتابات وأعمال الكاتب، ويبدو أنها أصابتها في العالم العربي لعنة حظها الوافر، المبكر المؤقت، بعد صدوها عام 1937، فسرعان ما طغت عليها أعمال أخرى، أكثر شهرة، لهيمنجواي وبعد فوزه بجائزة نوبل عام 1954 أصبحت رواية "العجوز والبحر" دليلا عليه، تعرف به وتشير إليه، وتبارى في ترجمتها مترجمون من أجيال مختلفة، فتعددت ترجماتها وتباينت، وعرفت مصريا بعنوان "العجوز والبحر"، واستقرت عربيا "الشيخ والبحر". وعقب انتحار هيمنغواي عام 1961 ترجم نور الدين مصطفى "To have and have not" وصدرت للمرة الأولى في أكتوبر 1961 في سلسلة "روايات الهلال" بالقاهرة، وإن حملت عنوان "المهرّبون"، وظلت شبه مجهولة أو غائبة عربيا، إلى أن أعادت السلسلة نفسها إصدارها بعنوانها الأصلي "أن تملك وألا تملك". "الخيميائي" وصدق الأسطورة وفي وقت قياسي، أتاحت البساطة الخادعة في رواية "الخيميائي" لمؤلفها باولو كويلو انتشارا عالميا، وصنعت منه ظاهرة أدبية تكاد تكون غير مسبوقة؛ بحكم أنها العمل الأول لروائي يكتب بلغة غير الإنكليزية. كان الروائي المصري بهاء طاهر مقيما في جنيف، ولاحظ اهتماما كبيرا من الصحافة السويسرية بالروائي باولو كويلو وروايته "الخيميائي" التي ترجمت آنذاك إلى خمس وأربعين لغة، وربما بلغ عدد اللغات التي ترجمت إليها أعمال كويلو ثمانين لغة. قرأ بهاء طاهر الرواية وترجمها. كويلو البرازيلي المولود عام 1947 اكتسب شهرته العربية العريضة بعد أن تحمس الروائي المصري بهاء طاهر لترجمة "الخيميائي" إلى العربية، وصدرت في يوليو 1996 في سلسلة روايات الهلال العريقة واسعة الانتشار بعنوان "ساحر الصحراء"،. وصنعت مكانة المترجم جسرا عبر بالمؤلف إلى عواصم عربية أكثر احترافا في مهنة النشر، واحتكرت حقوق ترجمة رواياته التالية التي لم تسلم من القرصنة الإلكترونية والتزوير الورقي. ولأن في كل جيل تصدر كتب، وتتعرض لظلم وتهميش وإقصاء، سهوا من دون قصد، أو عمدا بسبب الغيرة. والمجايلة حجاب بالطبع. فإن نسخا قليلة أو نسخة واحدة على الأقل تنجو، لكي تكتمل الأسطورة، وتجاور أبطال أساطير نجوْا من مذابح جماعية مدبرة، وحروب وكوارث طبيعية أفنت الجميع وأبقت على الناجي؛ لكي يروي الأسطورة، ويصون الذاكرة الجماعية، وهكذا فعل سعد القرش، مع 40 كتابًا وكتاب، كان من الصعب أن أضمنها جميعًا في مقالتي هذه. *كاتب صحفي مصري
مشاركة :