ألبير كامو يتحسس بؤس القبائل | واسيني الأعرج

  • 4/7/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ألبير كامو من الكُتَّاب الروائيين الأكثر التباساً وإشكالاً في تاريخ الثقافتين، الفرنسية والجزائرية. من جهة هو جزائري بحكم الميلاد والحياة، إذ اشترك مع الجزائريين في مآسيهم اليومية وفقرهم وغربتهم أيضاً، لأن أصوله التي ينحدر منها جزئيًا، إسبانية، مما يجعل منه فرنسياً ناقصاً كما كان يشعر دومًا بذلك في أعماقه، لكنه انفصل عن الجزائريين أيضاً في حلمهم بالاستقلال نهائياً من الآلة الاستعمارية القاسية. فقد بقي بين كرسيين ولم يُحدِّد موقعه أبدًا، وربما كان ذلك سبب مأساته الوجودية كما عبَّر عنها في خطاب ستوكهولم يوم حصوله على جائزة نوبل. على العكس من جان بول سارتر الذي كان موقفه واضحاً من الثورة الجزائرية، فساندها وكتب مُؤلّفه المعروف، المعادي للاستعمار: عارنا في الجزائر. هوية سارتر كانت واضحة، فرنسي ديمقراطي يساند ثورة يراها عادلة، على العكس من كامو الذي ظل رهين رؤية محكومة بازدواجية الهوية التي لم تخرج عن النزعات الاستعمارية في النهاية، على الرغم من بحثها عن مساحة عادلة ومشتركة تجمع بين كل القوميات والأديان والأعراق. هذا الهامش والهاجس من الحرية هو الذي جعل كامو يقترب كثيرًا من الحركة الوطنية ويكتب أشياء كثيرة تصب في خانة فضح الاستعمار. من ذلك مقالته الشهيرة: بؤس منطقة القبائل Misère de la Kabylie، الذي أنجزه في شكل تحقيق موسع وجريء جدًا، قام به من 05 جوان حتى 15 منه، في سنة 1939 ونشره فيAlger Républicain، الصحيفة اليسارية التي أسّسها باسكال بيا Pascal Pia في سنة 1938 ليكون خطابها مناقضًا للخطاب الاستعماري السائد والتي استطاعت أن تستقطب تيارًا بكامله مناهضًا للطغيان. تعرفت على هذا التحقيق عندما كلفتني جريدة الجمهورية بترجمته في السبعينيات. أتذكر أن الجملة الأولى التي بدأ بها ألبير كامو تحقيقه أصابتني في الصميم بقسوتها: ذات صباح باكر رأيت في تيزي وزو أطفالًا بألبسة ممزقة يتنافسون مع الكلاب على محتويات قمامة الزبالة. أجاب أحدهم عن تساؤلاتي: يحدث هذا في كل صباح. مقالة طويلة شديدة القسوة، يصف فيها ألبير كامو الوضعية المعيشية لسكان المنطقة، والفقر الذي جعل الكثير من القبائليين يموتون من شدة البرد والعزلة. كان إحساس كامو في هذه المقالة جزائريًا ومتبصرًا وعادلًا بامتياز. سلبيتها الوحيدة هي أن ألبير كامو لم يُعِد في أية لحظة من اللحظات، النظر في النظام الاستعماري، والآلة التي كانت وراء الوضع الذي وصفه بدقة. على مدار صفحات التحقيق الكثيرة، لم يتحدث كامو إلا بضمير النحن، أي بوصفه واحدًا من هذه المنظومة التي كان هو من ثمراتها. ولم يضع نفسه أبدًا في صف الأهالي Les Indigènes الذين لم يكن لهم أي وضع اعتباري. وصف كيف يعيشون وكيف يموتون في ظروف أسوأ من حيوانات تعيش في الخلاء. ودقق في التفاصيل الصغيرة التي جعلت كل من قرأ المقالة يتعاطف مع ضحايا البرد والطبيعة والتفقير. كان هدفه في النهاية معرفة المنطقة جيدًا للتسريع من عملية الاندماج التي كان كامو واحدًا من أهم المدافعين عنها. ليست المصادفة هي التي قادتني يومها وحبَّبتني في مقالة كامو، أو طلب مدير جريدة الجمهورية التي كنت أتعاون معها في السبعينيات، لكن لشيء خاص نشب في أعماقي. فقد شعرت كأنه يصف وضعية قريتي في أقاصي الغرب الجزائري التي كانت تعاني من نفس الفقر وربما أكثر. رأيتني ورأيت أمي وإخوتي وأبناء قريتي في نفس المِزق التي كانوا يلبسونها. الذين يُمجِّدون الاستعمار يحتاجون اليوم إلى إعادة قراءة هذا النص ليُدركوا جيدًا الحسنات الكبيرة التي خلّفها الاستعمار، وحالة الأهالي وهم يتدفأون من البرد الشديد في مرتفعات أرض القبائل، بضم أجسادهم إلى بعضها البعض. كم ذاكرة البشر قصيرة. نص بؤس منطقة القبائل، قليلًا ما كنّا نتحدث عنه. أو لنقل كنا نسمع به دون أن نقرأه. أنا نفسي لم أكن وقتها قد قرأت له -لكامو- إلا روايتين: الغريب والطاعون. هذا المقال كان صرخة منبهة للاستعمار ليلتفت قبل فوات الأوان. لكن الظلم كان وقتها قد وصل إلى العظم.

مشاركة :